أمام خارطة مدينة يافا المشكلة بقطعٍ متكسّرة من أرضيات بلاط ملوّنة لبيوت في يافا -هدمتها المجموعات الصهيونيّة العام 1948- تقف 30 طالبةً بعيونٍ متفّحصة هذا العمل الفني الذي استطاع الفنّان أمير الزعبي جمع حجارته من على شاطئ يافا على فترات ممتدة، ليرسم فيها المدينة قبل هدم أحياء كاملة فيها.
تعرّفت طالبات مخيّم عسكر، يوم السبت 25/02/2023، من خلال جولة تفاعليّة لمعرض "بلد وحَدّهُ البحر" في المتحف الفلسطيني، قادتها مساعدة البرنامج التعليمي في المتحف لانا عبيدة، على رواية المدن الساحليّة الفلسطينية المُهدّمة المعروضة بطرق فنية متنوعة، فيما سعت الزيارة، بشكل أساسي، إلى تعريضّ الزائرات لأدوات سرد وتوثيق فنيّة ومختلفة، واستكشاف فرص استخدام أدوات عدة في استعراض التراث الفلسطينيّ، وليتبحرن بدورهن في مفهوم الهويّة الوطنيّة والثقافيّة الفلسطينية.
هذا، وقد اختتمت الطالبات فعاليّات الجولة بورشة عمل وجلسة نقاشٍ حول الأعمال المعروضة وتحليلها، إذ سلّط المستشار التربوي مالك الريماوي معهن الضوء على المراحل التي مرّت بها المواد المجموعة من البحث والتطوير، لتكوّن أخيراً معرضاً متكاملاً يتفاعل معه الجمهور، من خلال استخدام الفنّانين أدواتٍ مختلفةً لإعادة تصوّر النكبة بعيون مدنٍ فلسطينيّة، فيما عمل الريماوي على تبسيط المفاهيم والاستلهام من الأعمال الفنيّة في بناء مضامين وتوجّهات حول قصص وحكايات المخيّم التي من الممكن جمعها، من خلال الالتفات إلى الأفعال الحياتيّة اليوميّة والإنسان ببساطته.
يرتكز المعرض على مقولة رئيسيّة مفادها أن "أهل فلسطين، وعبر تاريخ مستّمر، استطاعوا صياغة أشكال مختلفة لتجلّيات وجودهم المتجذر في الأرض". تجسّدت هذه المقولة في طالبات مخيّم عسكر، اللواتي حاولن، ومن خلال عملهن في الورشة كمجموعات، قراءة الأعمال الفنيّة وتحليلها مضموناً وشكلاً ورؤية، وعرض رؤياهنّ لعناصر الأعمال الفنيّة بوعيهنّ المتراكم حول تلك العناصر، للخروج بأفكارٍ مختلفة للتعبير عن الرواية الوطنيّة في مخيّم عسكر.
تشير منسقّة المبادرة فداء شافعي إلى تأثرها بزيارة المعرض قائلة "إن الرؤية الأوليّة لمبادرتنا كانت بعرض قصص المخيّم من خلال أعمال فنيّة بالخزف والفسيفساء"، في إشارةٍ منها إلى أن الحجر لا يتغيّر و"عمره طويل" كما أن له أهميّته في التاريخ، ولكن مشاهدتها لمعرض "بلد وحَدُّه البحر" فتح مداركها نحو نماذج مغايرة؛ مثل إنتاج معرض يستخدم أدوات فنيّة وتكنولوجيّة حديثة.
مبادرة "صوت النساء" أو "من أنت" أو "من وين أنتَ/ي؟"، باختلاف التداول لمسمياتها، تبحث في التراكم الهوياتيّ للاجئين واللاجئات في مخيم عسكر، فيما تسعى، من خلال ذلك، إلى إكسابّ الطالبات والنساء في المخيم ذاته المهارات اللازمة لنقل تجربة المخيّم والتعبير عنها بصوتهن، عن طريق القيام بعمليّات بحث حول حياة اللاجئين في المخيّم، وإعادة بناء قصصهم بأشكال فنيّة، فيما سيتم في ختام المبادرة تنفيذ تداخلات فنيّة في الحيّز العام في المخيّم.
المبادرة التي نبتت في قلب مخيم عسكر، تطرح تساؤلات حول قصص سكان المخيم وعلاقتها بالهويّة الفلسطينيّة، وطرق تعبيرهم عن نشأتهم ومكان ولادتهم ومكان عودتهم القادمة، و"مؤقتيّة" المخيّم، فالمخيم مؤقت بفكرته ومساحته وبنيته التحتيّة، وما بين هذا وذاك، يتساءل اللاجئ الفلسطينيّ، في حالة من الانتظار المستمرة حتى الآن، عن انتماءاته، للمؤقت الموجود أم الدائم ظاهرياً؟ "إنتَ/ي من وين" هو سؤال المكان في الظاهر، ولكّنه سؤال الفكرة عن اللاجئ وتطلعاته المستقبليّة، وسعيه الدائم في البحث عن خيطٍ يتشبّث به.
تصب زيارة المعرض بالنسبة لمشروعهن في المخيم في جانبين مهمين؛ الأول يأتي في سياق محاولتهن البحث في إجابات سؤال "من نحن؟" العديدة والمتشعبة، والثاني هو للتعلّم من المعرض كأداة متحفيّة، وبالتالي المضي قدماً وفتح أفق جديد وآليات عرض مختلفة لحكايات مخيّم عسكر.
تسعى المبادرة إلى خلق تفاعل متعدد الطبقات بين شرائح المجتمع المختلفة في مخيّم عسكر، من خلال القراءة والبحث وخلق حوار ونقاش مجتمعيّ في عرض قصص وحكايات من المخيّم، تكون النساء محور إنتاجها، والمُحرّك الأساسيّ لها، والوسيط بينها وبين المجتمع، وتركّز على أن المُخرجات ستكون بصوت النساء وبلهجتهّن المحكيّة، على اختلافها لكونهّن لاجئات من مناطق مختلفة.
يُذكر أنّ مبادرة "إنتَ/ي من وين" تنفّذ ضمن مسار "مبادرة في موقع" للعام 2022 ضمن مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعيّة، وبتمويل مشارك من الوكالة السويسريّة للتنمية والتعاون (SDC).