نظّم برنامج البحث والتطوير التربوي/مؤسسة عبد المحسن القطان في غزة، مؤخّراً، ثلاثة لقاءاتٍ حواريّة بعنوان "انغلاقٌ وانكشاف"، شارك فيها 60 شخصاً من طلبةٍ وأهالٍ ومعلّمين ومعلمات ومختصّين تربويين وإداريين، وأدارتها علا بدوي مديرة مكتب البرنامج في غزة، بالتعاون مع المعلّم حمدان الأغا منسّق منتدى خان يونس للمعلّمين.
بدأت اللقاءات بمشاركة الحضور لانطباعاتهم عن تجربة الحجّر المنزلي عبر الرّسم، فتنوّعت الرسوم ما بين رموز تعبّر عن بشرٍ تحيط بهم قضبان السّجن، وأدوات العزل والتعقيم الصحّي، وأسرّة النوم، ومقاعد الدراسة المنزلية، وأدوات التكنولوجيا ووسائل الاتصالات، وأدوات المطبخ، وبعض الكتب، وعلامات استفهام متعدّدة حولها.
كما تناولت الرسوم والتعليقات، مفاهيم وثيمات متنوّعة وسَمت فترة الحجْر المنزلي، مثل العائلة، والمحبّة، والتواصل، والعلاقات الدافئة أو المتوتّرة، والنقاهة، والكسل، والقراءة، والتعلّم والتدريب، والإبداع، فيما تنوّعت المشاعر التي تمّ التعبير عنها بين الخوف والارتباك والتشتّت والحيْرة والقلق، والصراع مع الذات، والاحتراق الداخليّ، والسّير في طرقات ذات قوانين مجهولة، والرغبة في عمل كلّ شيء، والتعثّر، وتعدّد الصعوبات والتحدّيات.
وعبّر المشاركون، أيضاً، عن تصوّراتهم عن التعليم والتعلّم عن بعد، في مراحل ثلاث شملت مرحلة ما قبل الحجّر المنزلي، وتجربتهم خلاله، ورؤيتهم لما بعده. وتنوّعت رؤاهم؛ فمنهم من رأوا أنهم كانوا ينظرون إلى التعلّم والتعليم عن بعد، قبل الحجّر المنزلي، على أنّه أمرٌ خاصّ بالتعليم العالي وطلبة الجامعات، أو أنّه التعلّم الذاتي المثاليّ، أو أنّه أمرٌ هامشيّ يتعرّض للإهمال واللامبالاة من الأهالي والمعلّمين، أو مجال بحثٍ خاص بتطوير الذات، أو وسيلة للتقييم عن بعد.
أما عن التعليم والتعلّم عن بعد في فترة الحجّر المنزلي، فصوّره البعض على أنّه مرحلة التواصل المتعدّد والانفتاح على فضاءات جديدة، أو انقطاع التواصل والانغلاق على النفس، أو مرحلة التعثّر، وعدم القدرة على الرؤية الماديّة والمعنويّة بين المعلمين والطلبة، أو على أنّه ضرورةٌ وإلحاح وإجبار، أو فرصة محمّلة بالممكنات، أو أنّه نوعٌ من التعليم يتعارض مع التعليم الوجاهي، ويمعن في تزييف مفاهيم التعلّم، والتمركز حول الشهادات والدرجات، أو أنّه بذرة جميلة مدفونة عميقاً في الأرض، وبدأت بالانبثاق من سطحها، والانطلاق نحو الفضاء.
فيما رأى بعض المشاركين، أن تصوّراتهم عن التعليم والتعلّم عن بعد والتعلّم الإلكتروني، بعد تجربة الحجْر المنزلي، قد اختلفت وتحوّلت، ما بين عدم الرغبة في تكرار هذه التجربة مطلقاً، وبين أنّ هذه الأشكال من التعليم والتعلّم موضع تساؤلاتٍ كبيرة من المهمّ العمل على إجابتها، أو أنّها واقعٌ مطلوب التعايش معه وتطويره من الجميع، وأنّه لا خيار سواها، أو أنّه لا يمكن الاعتماد عليها بشكل مستقلّ أو منفصل، وأنّها لا بدّ أن تنطلق بدافع داخليّ ذاتي من المعلّمين، وبين أهميّتها لتطوير الذات، مع أهمّية أن تتمّ العناية بتنظيمها وتطويرها من الإدارات التربوية وصنّاع القرار في المجتمع. وقد خلص المشاركون إلى أنّ الحاجة لتطوير هذا الشكل من التعليم بالتزامن مع تطوير النظام التعليميّ، قد أصبح ضرورة ملحّة في اللحظة الراهنة.
- قصص وتجارب شخصيّة
شارك الحضور تجاربهم وقصصهم الشخصيّة في التعلّم والتعليم خلال فترة الحجّر المنزلي، وما حملته من ممكناتٍ وفرص، وما اشتملته من صعوبات وتحدّيات وتساؤلات، ومواقف ساخرة أو مضحكة، وتناقشوا في وجهات نظرهم وتساؤلاتهم المتعدّدة حولها، وحول إمكانيّات البناء عليها لتطوير تعليم نوعيّ ومغاير.
سرد محمد صيام وهو والد أحد الطلبة، قصّته مع أطفاله السّتة وما خاضه معهم: "كأبّ، أنا مسؤول عن 6 أشخاص جميعهم طلبة، ومن المفترض أن كلاَّ منهم ملتحقٌ بستّ مجموعات تعليميّة إلكترونياً، أضرب عدد أولادي في عدد المواد في عدد المجموعات التعليميّة، وعدد المدارس الملتحقين بها. وهذه المعلّمة تخبرنا بالمتابعة بجهة، وتلك المعلّمة بجهة أخرى... كان الأمر مشتّتاً ومرهقاً ... بالنهاية صرنا ندخل المنصّة بأسماء أطفالنا، ونحلّ الواجبات بدلاً منهم، فلا أحد يتواصل مع الطفل ليتحقّق من تعلّمه. كنت أتمنّى لو كان تعليماً غير ممنهج، وخارج المقرّرات، لكان هناك فرصة لإتاحة جوٍّ مختلف عن الجوّ المدرسي".
أمّا الطالبة سارة غطّاس (11 عاماً)، فقد شاركت مخاوفها ورغباتها: "أثناء فترة الحجر كنت أتمنّى الرجوع بالزمن، أو التقدّم فيه لأتخطّاه، أو بالابتعاد عن هذه الأزمة التي يمرّ بها الجميع، وأن يكون هناك العديد من الخيارات للتواصل بين المعلم والطالب، وكنت أريد أن أتمكّن أنا ومعلمي وزملائي من التحاور معاً في فكرة معيّنة، والاستفادة من استفسارات زملائنا ... و كنت أخشى أن تستمرّ هذه الأزمة لفترة طويلة، وأن ينسى الناس والأطفال معنى التعاون والتحاور في أفكار الدروس".
ومن التجارب التي خاضها المشاركون، خلال فترة مكوثهم في الحجر المنزلي، كانت الحصص الدراسيّة المعدّة عبر مقاطع فيديو، حيث تحدّث المعلّم عبد الحليم بطّاح عن قصّته خلال المشاركة في بناء إحدى المنصّات التعليمية، قائلاً: "كنت أواصل تسجيل مقاطع الفيديو حتى الليل بسبب الأصوات الخارجيّة، فإذا مرّ بجانب بيتك مثلاً بائع متجوّل أو مارّة بالشارع أو عربات أو صار موعد الآذان، كنت أعيد من جديد ... كان يعني تعباً ومواصلة الليل مع النهار... كان معنا 20 يوماً فقط لإنجاز منصّة تعليمية!".
بينما ناقش الطالب محمد أبو طالب ما واجهه من تحدٍّ يتعلّق بمقاطع الفيديو التعليميّة، سارداً قصّة من منظورٍ مختلف: " كيف سأتواصل مع أستاذي عبر فيديو مسجّل مسبقاً؟ ولنفترض لم أفهم أمراً ما من الفيديو، كيف أسأله وأنا لا أتمكّن من التواصل معه؟ وفي حال اضطررت لحضور الحصّة بعد يومين أو أكثر، وتراكم عددٌ من الحصص المسجّلة، كيف أبني الحصّة الأخيرة على الحصة الأولى؟!".
وفي السّياق ذاته، شارك الأستاذ خليل أبو إسماعيل، المشرف التربوي في المعاهد الأزهرية، وجهة نظره فيما طرح من تجارب قائلاً: "من غير المعقول أن أقوم كمعلّم بتصوير نفسي وأنا أشرح درساً عبر تسجيل فيديو، ومن ثمّ أعرضه للطلبة، وأسمّي هذا تعليماً عن بعد! ... هذا فقط استخدام للتقنيات التكنولوجيّة الحديثة، أيّ مثل التعليم الوجاهي التقليدي، ولكن باستخدام تقنيات حديثة، أما التعليم عن بعد فَلَه تقنياتٌ خاصة، وفيه تواصل متزامن وغير متزامن، ومن المهمّ قبل التواصل أن تكون المادة جذابة ومناسبة حتى أضمن متابعة الطلبة وتواصلهم معي".
وشاركت فاطمة حمودة وهي مربيّة رياض أطفال، تجربة مختلفة في إنتاج الأفلام بالشراكة مع أطفال الروضة: "بنينا مع الأطفال والأهالي مجموعة على الواتس آب، وبدأنا نشتغل مع الأطفال على صنع مقاطع فيديو تتعلّق بمنهاج الحروف والأرقام ونجح الأمر ... اكتشفنا مواهب متعدّدة للأطفال، حتّى الأهالي تفاجأوا بها، وبخاصّة حبّهم للفنون والكتابة والتمثيل، وقام الأهالي بعمل قنوات لأطفالهم على اليوتيوب، كان الأطفال يحبّون الحديث عبرها ومشاركتها وحقّقت مشاهدات رائعة".
ومما شاركته المعلّمة رنا شعبان عن تجربتها، وبخاصّة ما يتعلّق بالعلاقة المستجدّة بينها وبين الطلبة، وكيف عملت على تطويرها: "أثناء خوْضي التجربة، وجدتُ نفسي ملزمة بأن أغيّر من رنا المعلمة ... كنت أدرك تماماً أنّ وجودي أمام شاشة هو أمرٌ مختلف ... كانت التجربة ملزمة لي وليس للطلبة، بأن أفكّر في طرقٍ إبداعية لجذبهم! ركّزت على التعلّم العاطفي الاجتماعي، وكيف أبني علاقة مع الطالب وأحبّه وأحبّبه في التعلّم، وكيف أفهمه وأفهم الظروف التي يمرّ بها".
وممّا تكشّف للمشاركين عبر التجربة، شاركت غالية نوّاس المشرفة التربوية في القطاع الحكومي، وجهة نظرها حول فئة أخرى من المجتمع قائلةً: "أظنّ من أبدعوا خلال التجربة هم سكّان المدن ... ونسينا الفئة المهمّشة، التي ليس لديها إنترنت أو أجهزة ذكية، أو معرفة بالتكنولوجيا ... وهذه الفئة هي الأكبر والأهمّ للنظر في المشكلات والصعوبات التي تواجهها، وحلّها ... رغم ذلك التجربة فتحت لنا آفاق تعلم وتشبيك ... تعرفت على أناس من لبنان، ومن سوريا، وآخرين، ونتواصل ونتشارك أفكارنا".
أمّا د. محمود عساف، فتحدّث عمّا تكشّف له عن نفسه عبر تجربته الشخصيّة: "كنت أعتقد أنّي أكثر تأثيراً في طلابي من التكنولوجيا، لأنّهم يحبّونني، ولكن للأسف اكتشفت أنّ التكنولوجيا أكثر تأثيراً مني، وهذا أثبت لي أنّ المعلّم أصبح في ظلّ جائحة الكورونا ليس هو المصدر الوحيد للمعرفة، لم نعد مصادر... وبالتالي احفظ ماء وجهك يا معلّم وكن موجّهاً وليس ملقناً!
ومن جهةٍ أخرى، اكتشفت أنّي كمعلّم وكأبّ، بدأت ربّما مع تقدّم العمر أضيق ذرعاً بأن أكون معلّماً إلكترونياً، لكنّي أكثر شغفاً أن أكون متعلّما إلكترونياً!".
ومن المواقف المضحكة خلال التجربة، تذكر المعلّمة دينا الصيفي: "خلال البحث عن الطلبة والاتصال عليهم، هاتفتُ ذات مرّة وليّ أمر أحد الطلبة، بينما يعمل في أحد محال اللحوم، وأخبرته أنّي معلّمة ابنه، وأريد من ابنه حضور الحصّة ... فكان ردّه: ترغبين في حضوره إلى المدرسة؟ قلتُ: لا، بل عبر الإنترنت، فصار يضحك، ثم قال: يا ابنتي هل تريدين إفساد الأولاد؟ أنا أخاف على بناتي وأولادي، الله يرضى عليك. بلاش!".
وقد أكد المشاركون أهمّية استمرارية هذه اللقاءات الحواريّة مع المجتمع، والبناء عليها، حيث طرحوا عدداً من التساؤلات والموضوعات التربوية والثقافية والاجتماعية ذات العلاقة، لمناقشتها في لقاءات مستقبلية، بحيث تشرك اللقاءات كافّة الأطراف والمعنيّين بالعملية التعليمية التعلمية، كما اقترحوا أن تستعرض اللقاءات تجارب ناجحة وملهمة في التعليم والتعلّم المغاير، سواء في فلسطين أو العالم العربي، وأن يتمّ إشراك المؤسسات والمبادرات المجتمعيّة المتعدّدة في هذه النقاشات، إضافة إلى صنّاع القرار في المجالات المختلفة.