داخل عالمهم الصغير المليء بالحياة والمُسطر بالأحلام، تنقلوا كالفراشة بين قصائد محمود درويش، وتعرفوا على البطل "المُقاوم" في رواية لغسان كنفاني، وانجذبوا إلى لغة الفوضى الخلاقة، وبحثوا فيها عن فلسفة الوجود في أعمال المفكر حسين البرغوثي. كما أعادوا إحياء المشهد الثقافي المستوحى من الذاكرة الفلسطينية، من خلال مجاورات ثقافية تشكلت عبر مبادرة نُفذت في جامعة الأقصى بغزة تحت اسم "حياة في الجامعة".
هم طلبة جامعة الأقصى في فرعيبها بخان يونس وغزة، المنخرطون في مبادرة ثقافية ضمن مشروع مجتمعي تنفذه مؤسسة عبد المحسن القطان، ويهدف إلى تطوير الممارسات الحياتية الخاصة بهم في سياق ملهم وتفاعلي، وإظهار هويتهم من خلال منحهم تمارين التأمل وفتح باب الحوار أمامهم للحديث عن تجاربهم ومخاوفهم.
"المبادرة عززت من الدور الثقافي والاجتماعي للجامعة، وزودت طلبتها بالأدوات الفنية اللازمة للاشتباك ثقافياً مع محيطهم، وساهمت في تطوير معارفهم ومهاراتهم القيادية في تشكيل مجموعات شبابية ثقافية قادرة على جلب المجتمع إلى الجامعة، وتعريفه بالفعل الثقافي الفلسطيني". هذا ما قاله المدرب والباحث التربوي في المبادرة، مرعي بشير.
وبعد عام كامل من العمل الثقافي والمجتمعي داخل أروقة جامعة الأقصى وخارجها، والجهد التشاركي المبذول من قبل أطراف المشروع، تكللت مبادرة "حياة في الجامعة" بالنجاح في تشكيل "مجموعات ثقافية" يقودها الطلبة المنخرطون في المبادرة من كلا الجنسين، والهادفة إلى تحريك المشهد الثقافي، عبر تنفيذ أنشطة وفعاليات داخل الجامعة.
"أردنا أن يُشكل الطلبة بقعة ضوء في ظل الظروف السياسية التي يمرون بها، وتكوين مجموعة من الشباب الفاعل المتذوق للثقافة وسط هيمنة الثقافة النخبوية في غزة". هذا ما قاله منسق المبادرة في غزة، سعيد أبو غزة.
رحلة البحث عن "الحياة"
وعلى الرغم من انطلاق الرحلة في ظل جائحة "كورونا" العام الماضي، فإن هذا الأمر لم يشكل عائقاً أمام أصحاب المبادرة للبحث عن "الحياة الثقافية" داخل أروقة جامعة الأقصى، حيث تمرسوا في التغلغل بين طلبتها، وتزويدهم بالمعارف الثقافية باستخدام أدوات فنية مختلفة ضمن "مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" الذي تنفذه مؤسسة عبد المحسن القطان، بالتعاون مع جامعة الأقصى، وبدعم مشارك مع الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC).
المبادرة انطلقت بعد تفكير وبحث مجتمعي معمق حول أهمية تحريك الفعل الثقافي داخل جامعة الأقصى، حيث بدأت ملامحها تلامس الواقع بعد قيام فريق المبادرة (مرعي بشير، سعيد أبو غزة) بالتعاون مع الأطراف الشريكة في المشروع، كخطوة أولى في البحث عن اسم لها يعكس هُوية الطالب، ويُعبر عنه وعما يبحث عنه داخل الجامعة، بعيداً عن المناهج الدراسية، وعليه وقع الخيار على "حياة في الجامعة".
كما إن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها قطاع غزة منذ سنوات طويلة، لم تشكل عائقاً أمام رحلة البحث عن الحياة الثقافية داخل الجامعة، حيث استكمل فريق المبادرة مشواره متجاوزاً مرحلة اختيار الاسم، لينتقل إلى الخطوة التالية بطرح ومناقشة فكرة المبادرة ومضمونها مع إدارة جامعة الأقصى، بحضور ممثلين عن "القطان"، وذلك قبل مرحلة تنفيذ المبادرة.
"بعد مناقشة نهج وتوجه المبادرة الذي يصب في مصلحة الطلبة، أعلنّا رسمياً عن استقبال طلبات الاشتراك في المبادرة، وخلال ذلك، رصدنا لهفة الطلبة والطالبات للمشاركة". هكذا تحدث الباحث بشير عن البدء بأولى المراحل العملية للمبادرة التي استهدفت الطلبة من مختلف التخصصات، غير أن نسبة الفتيات المشاركات في المبادرة قد شكلت ما نسبته 80%.
"نحن سعداء بهذا التعاون وقد احتضنا المبادرة لأنها تصب في مصلحة الطلبة، إذ ساهمت في تنمية قدراتهم وتأهيلهم للدخول إلى سوق العمل، وتفعيل دورهم الثقافي، وانخراطهم مع المجتمع". هذا ما قاله عميد خدمة المجتمع والتعليم المستمر السابق في جامعة الأقصى، د. محمد أبو عودة، الذي أشرف على المبادرة خلال تنفيذها بجانب الفريق.
وعملت المبادرة على منح الجامعة فرصة للانخراط بشكل أوسع مع المجتمع، من خلال الفعل الثقافي الذي ساهم في إحداث حراك مجتمعي واضح -بحسب ما ذكر أبو عودة- وبخاصة أن الطلبة أنفسهم قاموا بزيارات ميدانية وتواصلوا مع مؤسسات ثقافية مختلفة خارج أسوار جامعتهم، وذلك بهدف تحقيق التعاون المشترك بعقد نشاطات ثقافية هادفة داخل الجامعة.
وتحدث واصفاً "الحياة الثقافية" في جامعة الأقصى: "الأنشطة الثقافية قليلة، والمبادرة شكلت خطوة مهمة، ومن المهم، أيضاً، الاستمرارية في تطويرها ونقلها من جيل إلى جيل داخل الجامعة".
"المبادرة متنفس لنا من الحروب"
"شكلت المبادرة متنفساً لنا، حيث لم نشهد فعلاً ثقافياً مشابهاً داخل الجامعة، وجاءت بعد حرب تركت أثراً سلبياً فينا". هذا ما قالته المشاركة في المبادرة الطالبة شهد صافي (20 عاماً)، من سكان مدينة رفح، التي خاضت كما أقرانها مرحلة الاختبار ضمن الورشة الأولى لاختيار المشاركين في المبادرة.
وشاركت صافي في العديد من أنشطة وفعاليات المبادرة منذ انطلاقها، وكان من بينها مجاورة "شمس" المنفذة في فرع خان يونس، والهادفة إلى تفكيك الجمود وتعزيز مهارات التواصل والاتصال بين الطلاب والطالبات داخل الجامعة، وتغذيتهم بالمعارف، وتعريفهم بأشهر الأدباء والشعراء، بجانب طرح المفاهيم وتبسيطها لهم.
وقالت صافي مبتسمة: "تمردت على خوفي، وتحدثت عن تجربتي بتجرد كأنني فراشة في إحدى القصائد، وانخرطت في عالم يشبهني تماماً، وتعرفت على كتّاب وأدباء، وقمنا بزيارة أماكن ثقافية عدة كمتحف القرارة الثقافي، وجمعية الشبان المسيحية، وجاليري 28، وجمعية الثقافة والفكر الحر، وأيام المسرح".
لم تشكل المجاورات الثقافية (كأحد أنشطة المبادرة) عاملاً وحيداً في بناء المعرفة، وإنما لعبت "الخارطة الثقافية" -التي أعدها فريق المبادرة لتسليط الضوء على أهم المبادرات والمؤسسات والتجارب الفنية والثقافية الحاصلة على مستوى القطاع- دوراً مهماً في انخراط الطلبة مع المجتمع المحيط بهم، وتعريفهم بالأنشطة والفعاليات الثقافية المختلفة.
قال بشير: "هي دعوة إلى التأمل، وتُمكن الطلبة من رسم ملامح مبادراتهم الثقافية والمجتمعية المنفذة داخل الجامعة، وبناء مشاريعهم الثقافية، ونقلها من الجامعة إلى المجتمع".
تشكيل "مجموعات ثقافية" داخل الجامعة
لم تقتصر رحلة البحث عن "الحياة الثقافية" داخل جامعة الأقصى على إكساب طلبتها معارف ومهارات عبر مشاركتهم في مجاورات أو أنشطة ثقافية خارج أسوار الجامعة، وإنما امتدت إلى أبعد من ذلك، حيث استطاعوا بشغفهم بناء وقيادة مشاريعهم الثقافية التي تُعبر عنهم، والتي تم تجسيدها عبر فعالية "من المجتمع إلى الجامعة"، وباستخدام أدوات فنية تعبيرية كـ: المسرح، والدراما، والفنون التشكيلية والتعبيرية، والفولكلور الشعبي، والأدب، والشعر.
"الطلبة المنخرطون في المبادرة خططوا وقادوا ونفذوا نشاطاً ثقافياً داخل الجامعة، وهو الأول بالنسبة لهم، بعد أن تواصلوا مع جهات ومؤسسات ثقافية فاعلة بهدف التعاون، وإشراكهم في النشاط المميز". هذا ما ذكره بشير متحدثاً عن دور المبادرة في إحداث حراك مجتمعي ثقافي.
وبالحديث عن رصد ردود الفعل أثناء تنفيذ النشاط، قال أبو غزة واصفاً المشهد: أحد الأساتذة قال لي أنا فخور جداً بطلابي، لأول مرة، ومنذ 17 عاماً، أشاهد الطلاب والطالبات يجلسون معاً، وعلى مدرج واحد، يستمعون إلى الأدب ... شيء مذهل".
بدوره، عبر الطالب حازم علوان، وهو منسق فريق السينما والمسرح في المبادرة عن سعادته في المشاركة بفعالية "من المجتمع إلى الجامعة"، قائلاً: المسرج الجماعي مكنني من ربط أدوار المجتمع والجامعة والطلبة بعضهما ببعض، فلماذا لا يوجد مسرح في الجامعة؟ المسرح ينطلق من الجامعة ..."، منوهاً إلى أهمية عرض أفلام ثقافية تعبر عن القضية الفلسطينية داخل الجامعة.
واستكمالاً للحراك الثقافي الذي بدأت به المبادرة، فإنها تسعى إلى توظيف طاقات الطلبة المشاركين فيها، من خلال إشراكهم في قيادة "مجموعات ثقافية" داخل فرعي الجامعة في خان يونس وغزة، بعد حصولهم على تدريبات عدة في مجال التخطيط، وقيادة الفعاليات الثقافية، حيث من المتوقع تشكيل 5-8 مجموعات ثقافية داخل الجامعة.