العزلة، الفصل، الحجر الصحي

الرئيسية العزلة، الفصل، الحجر الصحي

المقدّمة

أبعد من وباء

المحرر: جميل هلال

لتحميل الكتاب: هنا

For English click here

 

ما زال وباء الكورونا (كوفيد-19) يواصل انتشاره بعد أكثر من ثمانية أشهر من بدء تفشيه في بلدان العالم، وما زال البحث جارياً في مراكز عدة عن طعم مضاد لهذا الوباء.  وما زالت الأسئلة المطروحة هي الأسئلة ذاتها التي طرحت في بدايات انتشاره وما ترتب عليه من إغلاقات وإجراءات وقائية فرضت حالات طوارئ على جزء كبير من البشرية؛ سواء في موجته الأولى، أو في موجته الثانية التي بدأت في عدد من الدول مع بدء فصل الخريف العام 2020.

سرعة انتشار الوباء على الصعيد العالمي وما رافقة من قيود على الحركة والتنقل والتجمع، طرحت أسئلة جوهرية حول طبيعة النظام الاقتصادي العالمي القائم، ودوره في تهيئة ظروف نشأته وانتشاره السريع، وما نتج عنه من ارتفاع في منسوب الإفقار والبطالة، وتوسيع انكشاف فئات واسعة من الناس لمخاطر البؤس والفقر.  وطرحت أزمة الوباء أسئلة ملحة عن مسؤولية النظام الرأسمالي النيوليبرالي عن تعميق اللامساواة في المجتمعات وبينها، ومسؤوليته عن توتير علاقة البشر مع البيئة الحيوانية والنباتية والمناخية، وبالتالي عن تهيئة الشروط المواتية لتوليد ونشر فيروسات فتاكة جديدة تهدد الحياة البشرية.

أثار الوباء إحساساً واسعاً بالحاجة لإحداث تغييرات بنيوية للعولمة كما تشكلت خلال العقود الأربعة الأخيرة، وعلى دور ومحركات المؤسسات الدولية التي أصاب العديد منها الشلل والارتباك وقلة الحيلة مقابل تنامي النزعة القومية المتشددة والمنغلقة، مع ترسخ قيم الربح والفردانية وآليات اقتصاد السوق المنفلت من رقابة المجتمع في إملاء أنماط العلاقة بين الناس.  الكتاب يضم مداخلات وتأملات عدة تناولت موضوعات حول معنى انتشار الوباء وتداعياته، بما في ذلك، ولكن ليس فقط، تداعياته على الوضع الفلسطيني في ظل السيطرة الاستعمارية الاستيطانية على فلسطين التاريخية.

تجدد موجات الوباء ساهم في تجدد القلق حول المستقبل وشروط البقاء ونمط العاقلات الذي سيسود بين البشر وفي العلاقات الدولية بعد انحسار الوباء، وموضوعات أخرى ذات صلة، كما يحاول ما يلي من هذه المقدمة أن يبين.

 

كورونا؛ قراءة لتداعيات الوباء على الاقتصاد العالمي وعلى الثقافة

يناقش مقال غسان الخطيب (المعنون "تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي") التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لوباء كورونا، مشيراً -بادي ذي بدء- إلى أن الاقتصاد العالمي كان يعيش حالة تراجعٍ قُبيل انتشار الوباء الذي دفع الحكومات، وإن بتفاوت ملحوظ، بعد أن تراجعت إيراداتها نتيجة إجراءات محاربة انتشار الوباء، إلى زيادة الإنفاق في مجال مخصصات البطالة والمساعدات للذين فقدوا دخلهم، إضافةً إلى توفير الإسناد للأعمال المهددة بالانهيار لتمكينها من الاستمرار وتوفير أُجور لموظفيها.  كما اضطرت العديد من الحكومات إلى زيادة إنفاقها على الاحتياجات الطارئة والرعاية الصحية.

يعيد المقال تراجع مؤشرات الاقتصادي العالمي قبل جائحة كورونا إلى سببين رئيسَين، وهما التوتر في العلاقات الاقتصادية الصينية الأمريكية، والسياسات المالية الأمريكية، إضافة إلى عدم الاستقرار في أسعار النفط الناتج عن المضاربة بين الدول المنتجة والمصدرة للنفط.  وقادت التداعيات الاقتصادية للوباء إلى تراجعٍ حادٍّ في المؤشرات الاقتصادية المختلفة، وفي مقدمتها مؤشر النمو الذي تراجع على المستوى العالمي، ودفع المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية إلى اعتبار أنّ الاقتصاد العالمي قد دخل في حالة ركودٍ اقتصادي.  ويورد المقال جدولاً صادراً عن صندوق النقد الدولي في حزيران 2020، يبين مقدار تأثر دول العالم نتيجة تداعيات الوباء، مشيرا إلى إجماع المؤسسات الدولية الاقتصادية والمالية المختصة على اعتبار الأزمة الاقتصادية الراهنة أعمق وأكثر حدةً من الأزمة المالية للعام 2008، وأنها الأخطر بعد الكساد الكبير العام 1929.

ويستشهد المقال بالتراجع الذي سبب الوباء للتجارة العالمية، نتيجةً لضعف الطلب، وانهيار السياحة العابرة للحدود، واضطراب الإمدادات الناتجة عن الإغلاقات العامة.  ويشير المقال إلى زيادة أزمة الكورونا للتضخم المالي، وللعجز في الميزانيات، والارتفاع الدين العام.  كما يتناول المقال الارتدادات الاجتماعية لتراجع المؤشرات الاقتصادية، ومن أهمها ارتفاع معدلات البطالة.  وحسب تقديرات منظمة العمل الدولية، فإن وقع البطالة كان أكبر على النساء، ما يعني تفاقم اللامساواة بين الجنسين في مجال العمل.  ويشير ارتفاع معدلات البطالة إلى ارتفاعٍ متناسبٍ في معدلات الفقر (أو الإفقار للدقة).  كما أن الدول الفقيرة تتحمل، أكثر من الدول الغنية، خسائر كبيرة على المستويين الإنساني والاقتصادي، ما سيزيد من اللامساواة على الصعيد العالمي.  ولا يغفل المقال تأثير الأزمة السلبي على تراجع التعليم، وما لهذا من آثار سلبية بعيدة المدى على رأس المال البشري الذي يُعد من أهم مقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ويخلص المقال إلى اعتبار أن الأزمة ستجعل مسار العولمة الرأسمالية أبطأ، لكنها ستستعيد دورها بعد انحسار الأزمة.

أثارت إجراءات مواجهة الكورونا شكوك الكثيرين حول ما يترتب عليها من انقطاع الأعمال والبطالة، وبات البعض يخشى أن يفوق الخطر المترتب عن الإجراءات المتبعة حجم الخطر المترتب على الفيروس نفسه.  وبات من الصعب إقناع الناس بالمنظومات السياسية والاقتصادية والصحية التي تحكم العالم.  أمران أثارا حيرة حوراني (في مقاله المعنون "حياة مسكونة بالقلق") حيال وباء الكورونا: الأول أن الدولة (بما في ذلك ذات المؤسسات الفاسدة) باتت هي مرجع التصرفات ومدعية الحرص على صحة مواطنيها وسلامتهم.  والثاني أن المثقف أصبح مطيعاً في زمن الخوف، وبات منصاعاً للنظام وتعليمات السلامة التي تطرحها مؤسسات الدولة أو السلطة الحاكمة.

لعل الأهم هو ما لاحظه خالد حوراني، وهو فنان تشكيلي، كتداعيات للوباء من ارتباك الفن ومؤسساته في فلسطين وفي العالم، الذي يشبه ما حدث للمؤسسات والنشاطات الرياضية وللنشاطات التي تحتاج لجمهور مباشر كالمتاحف والمهرجانات ودور السينما.  ولاحظ أن أثر الوباء في فلسطين كان أشد بحكم غياب دولة ذات سيادة وذات سيطرة على الحدود والموارد الطبيعية والحركة الداخلية والخارجية، وبحكم غياب مؤسسات ترعى المبدعين واحتياجاتهم، وهو أمر يسري على فئات أخرى محتاجة كالعاطلين عن العمل.  ويضيف حوراني: "على المستوى الشخصي عندما كنت أبحث عن الفنان في داخلي، كنت أجد عامل الصيانة.  لم أكن فناناً ولم أشعر بقدرة الفن على مساعدتي في تلك اللحظة".  ويضيف: ‏"في فلسطين لم يكن الحال الذي سبق كورونا طبيعياً، لنأمل العودة إليه بفارغ الصبر، وربما أضفى هذا الوباء ظلالاً على كيفية النظر من جديد إلى الحالة السياسية والثقافية، وعلى المعنى الثقافي لهذا الصراع في ظل الوضع العالمي.  سماع الأخبار، فكرة المشترك الإنساني في لحظة الخطر، التأمل في كثير من الأشياء وإعادة التفكير في وضع الفرد المهدد بالقلق والتوتر على نحو شخصي".

 

الوباء في زمن الكورونا؛ تطلع للتعافي

يتأمل مات أودير هورست في مقاله المعنون "الكورونا أوقعت بنا"، وبلغة تأملية، في إمكانيات أن يغيّر الوباء صورة أجسادنا ووعينا لأنفسنا وللآخرين، ويتساءل عما إن كانت ثقافتنا واقتصادنا والرأسمالية والأنظمة الصحية السائدة بحوزة الحيوية الضرورية للتصدي لأزمة الكورونا.  المقال يأخذ شكل سلسلة من النصائح والتوصيات (عددها خمسون بالضبط) يقدمها كاتب المقال للقارئ حول أفضل الطرق للتعامل مع الوباء، ولذا فالمقال عصي على الاختصار.  من هذه النصائح، على سبيل المثال؛ "الحذر هو فكرةٌ جيّدةٌ في زمن الوباء؛ تبيّن المساحة التي تقع أمامك.  أمّا التريّث فهو فكرةٌ أفضل؛ اعرف المساحة التي تمضي وقتك فيها.  لكنَّ أفضل نصيحةٍ هي الاحتراز؛ احترم المساحة، مساحتك ومساحة الآخرين".  يليها تماماً نصيحة تقول؛ "أن ندفن أنفسنا بصمتٍ في زمن الوباء هو أمر لا يؤذينا نحن فحسب، بل يؤذي أصدقاءنا أيضاً، ناهيك عن العائلة.  الحسّ السليم دائماً يتنفّس من الحوار الودّي.  فلئن أحطت نفسك بسور، فإنَّ الهواء والماء يصبحان نادرَين على المدى البعيد.  حتّى لو كان هناك قدرٌ كافٍ من الموارد في البداية على الأقل".

قد نتفق مع معظم نصائح الكاتب، لكن كثيرنا قد لا يتفق مع مطلق النصيحة التي يختتم فيها الكاتب مقاله بالقول: "في زمن الوباء، الحبّ فقط هو ما يفيد.  فلئن لم يكن متوفّراً، لأيّ سببٍ كان، يُنصح بالطيبة والعطف والتسامح".

من الصعب أن لفلسطيني، المحاصر في معازل الاستعمار الاستيطاني العنصري، أن ينظر بالطيبة والعطف والتسامح لمن يقمعه ويسرق أرضه ويشرده ويمنعه من العودة إلى وطنه الأم!!

في المداخلة المعنونة "دار: بيت بين العام والخاص" (لساندي هلال وأليساندرو بيتي)، و"دار" (جمعية دار للتخطيط المعماري والفني) هي منزل أحد أهدافه البحث في العلاقة بين المساحة الخاصة (الممثلة بالبيت) كموقع للرعاية وبين المساحة العامة كموقع للحكم، أوجدت "دار" مساحات جماعية مختلفة على الحدّ القائم بينهما.  تلاحظ المداخلة أن دور البيت وعلاقته بالعموم تغيّر جذرياً خلال جائحة الكورونا، وهو ما فرض إعادة التفكير في البيت ودوره في المجتمع.  وتستند المداخلة إلى تجربة "دار" في توضيح "الأعتاب القائمة بين الفنّ، والعمارة والتعليم".  كما تستخدم بتوسع مقتطفات من كتاب للمؤلفين معنّون "المؤقّت الدائم"، لحوار جرى حول العلاقة بين الحيز الخاص والحيز العام وتحول وظائفهما في الأزمات وحالات الطوارئ كما حدث خلال الانتفاضة الأولى، وكما يحدث الآن في ظل أزمة الكورونا.  وتستشهد المداخلة بتجربتين نجحتا في تحويل مساحة البيت إلى مساحة جماعية للعمل الاجتماعي والسياسي.  تستند الحالة الأولى إلى تجربة المؤلفة في مخيم الفوّار للاّجئين في فلسطين، حيث نحج مسعى إنشاء ساحة عامة في المخيّم مخصصة لنساء المخيم، شرط أن تكون الساحة محاطة بجدران، والتي سرعان ما أصبحت مكاناً مثالياًّ لحفلات الزفاف، والتعازي، وتجمّعات النساء.  وتستند الحالة الثانية إلى تجربة عائلة سورية لاجئة في شمال السويد حولت غرفة المعيشة الصغيرة في بيتها إلى مكان يستضيف ممثّلين عن الدولة السويدية، رافضة قبول دور الضيف الأبد عبر التحول، أيضاً، إلى مضيف.  ويستخلص الباحثان أنهما أدركا "أنّه خلال سنوات ممارستنا الطويلة في فلسطين، قمنا بتطوير جمعية لتحويل مساحة المنزل الخاصة إلى مساحة جماعيّة ومشتركة.  يمارس العديد من الأشخاص حقّ الاستضافة دون إدراك القوّة التي تحملها".

 

عن العبور من الديستوبيا إلى اليوتوبيا ومواجهة البنى الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين

تنطلق مداخلة يارا هواري في مقالها المعنون "من الديستوبيا إلى اليوتوبيا: تخيّل مستقبل راديكالي" من حقيقة أن الواضح أنَّ وباء الكورونا يسلّط الضوء على بنى وأنظمة القوّة واللامساواة في المجتمعات، لتشير إلى أنَّ "الواقع الجديد "الديستوبي" الذي وجد العالم نفسه فيه، يتضمّن الكثير من سمات الحياة اليوميّة التي يعاني منها الكثير من الفلسطينييّن بسبب ما يقارب من القرن من الغزو الاستعماري-الاستيطاني المستمرّ".  لتطرح ضرورة الابتعاد عن الواقع المرير (الديستوبي) الراهن، وتخيّل مستقبل راديكالي لفلسطين، موضحة أنَّ الخيال العلميّ ليس شائعاً في الأدب الفلسطيني، لذا تستشهد بمجموعة قصصية صدرت العام 2019 تحت عنوان "فلسطين +100: قصص من قرن بعد النكبة"، حيث تولى كتّاب فلسطينيون جمع عوالم الخيال العلمي والديستوبيا لتصوير فلسطين بعد مائة عام من التطهير العرقيّ الذي وقع سنة 1948.  وتستخلص محررة الكتاب أنَّ الخيال العلمي لا يطرح تغييراً حاداً جداً للكتّاب الفلسطينيين، فالحياة اليوميّة للمقيم منهم في فلسطين هي شكل من أشكال الديستوبيا.  وتؤكد الكاتبة أنَّ النكبة ما زالت متواصلة، حيث تتمظهر يومياً فيما يتعرض له الفلسطينيون من استعمار استيطاني عنصري، ومن محو وطمس لتاريخهم وتراثهم.  وتحت هذا النظام الاستعماري الإسرائيلي تتم مراقبة الحياة الفلسطينية، وإن تباينت بين تجمع فلسطيني وآخر.  وترى الكاتبة أن خلق مدينة فاضلة من ذكريات الماضي، يشكّل طريقة فعّالة للإبحار الفلسطيني في الحاضر الديستوبي.

وتلاحظ الكاتبة أن "النوستالجيا تقفز، في كثير من الأحيان، عن الجوانب الأقلّ جاذبية في الماضي، إلا أنَّها في الوقت نفسه تلقي الضوء على تلك الجوانب الغائبة من الحاضر".  والنوستالجيا قابلة لأن تكون زمانية، أو مكانيّة، ولا تلغي الواحدة منهما الأخرى، وهما تتقاطعان في سرديّة الفلسطينيّين.  وتستخلص أن الجوائح، بما فيها جانحة الكورونا، أجبرت البشر على القطيعة مع الماضي، وعلى تخيّل عالم جديد.  وترى أن فلسطين تجمع الكثير من بنى السلطة الأشدّ قمعاً وخراباً، وأن وباء الكورونا يوفّر فرصة لإعادة التفكير والتخيّل، وبوابة عبور من الديستوبيا إلى اليوتوبيا، وتتساءل عما إن كنّا سنستطيع كفلسطينيين الخطو لعبورها.

في مقالها المعنون "الوباء في فلسطين، ليس تشبيهاً"، تناقش مولافي، بشيء من التفصيل، دور مجموعة إسرائيلية باسم ا(NSO) تنتج أسلحة ومعدات إلكترونية مبرمجة للترصد ودعم نشاطات الحكومة غير القانونية في قرصنة وسائل الاتصال لشخصيات معنية بحقوق الإنسان ولمحامين وصحافيين ونشطاء في المعارضة، وتسويق هذه لمن يرغب من حكومات العالم، منوهةً بأن التحول إلى وسائل الاتصال الإلكترونية يجعلنا، كأفراد، مكشوفين للرقابة والترصد.  وكانت حكومة نتنياهو قد استخدمت أزمة وباء الكورونا لتبني إجراءات توسّع من سلطة جهاز الأمن الداخلي (الشين بيت) لتعقب حركة الأشخاص المصابين بفيروس كوفيد 19، لكنها قابلة لاستخدام انتهاك الخصوصية، ولإسكات صوت المدافعين عن حوق الإنسان تحت شعار الحد من انتشار وباء الكورونا.  وترى الكاتبة أن تطبيع استخدام البرمجة الرقمية الإسرائيلية للسيطرة والرقابة لا ينبغي فصلها عن الممارسة الإسرائيلية الاستعمارية في فلسطين.  وتشير إلى كيف عمّق انتشار الوباء من البنى والممارسات القائمة على التمييز العنصري.  وهي تلاحظ المنحى الأمني الذي اتّخذته إسرائيل خلال الوباء، مستندة إلى البنية العسكرية القائمة على سلب الشعب الفلسطيني والتميز ضده.  وتنهي مقالها بالحديث عما يمكن تعلمه من تفحص البنى الاستعمارية الاستيطانية والعنصرية التي استخدمت في فلسطين لفهم استنفار بنى قمعية في أماكن أخرى، مستشهدةً بتوصيات شاب من غزة لغيره من الشباب الفلسطينيين لكيفية التعامل مع العزلة كي يحافظوا على معنويات عالية في مواجهة الحصار والعزلة.

 

التغريب والاستغلال للعامل الفلسطيني في إسرائيل ومحاصرته في بنية تراتبية عنصرية

تسعى أميرة سلمي في مداخلتها المعنونة "الوباء والقهر الاستعماري والرأسمالي" إلى إضاءة بعض ما كشفه وباء كورونا من فجوات وإشكاليات في النظام العالمي القائم، وبخاصة استثناء العمال غير المهرة المشتغلين في صناعات أو أعمال اعتبرت "حيوية" و"ضرورية"، من إجراءات الوقاية الصحية التي اعتمدت في دول عدة وفي فلسطين.  وهي تقدم أمثلة عن الكيفية التي يصبح فيها الاستثناء والقمع أكثر انكشافاً في حالة الوباء، وإلى أي مدى يؤدّي هذا الانكشاف إلى تطبيع أشكال القهر والاستغلال للعمال والفقراء، بدلاً من أن يكون كاشفاً للتناقضات التي تنتجها الرأسمالية.  وتثني سلمي، على رأي جورجو أجامين أن الوباء، يوفر ذريعة للدولة لاتّخاذ إجراءات استثنائية، تقود إلى تجريد حياة الناس من أبعادها السياسية والاجتماعية واختزالها في بعدها البيولوجي فقط.  وبالتالي، قد يؤدي الوباء (أو بالتحديد سياسات وإجراءات "محاربته") إلى تعزيز انفصال الإنسان عن ذاته.  وهي تشير إلى أن أجامين يأمل في تبلور شيء إيجابي من الوباء، لأنه قد يدفع الناس إلى التساؤل عما إذا كانت طريقتهم السابقة في الحياة صحيحة أم لا.

ترى الكاتبة أن كون المجتمع الفلسطيني مجتمعاً مستعمَراً، كان وراء الكيفية التي تعامل بها العمال الفلسطينيون مع اللايقين الذي يفرضه الوباء، وترى أن ذلك ظهر، بشكل واضح، في رفض الخضوع لإجراءات "الطوارئ".  فالعامل الفلسطيني لا يدرك نفسه إلا كعامل والمخاطرة التي توسم حياته كعامل في إسرائيل، لم تكن عاملاً يحول دون توجهه إلى العمل.  وهي تشير إلى تناقض بين السيادة السياسية الوهمية للسلطة الفلسطينية، وبين تبعيتها الاقتصادية وافتقارها لأي شكل من السيادة "الأمنية" على الأرض.  وتتعامل إسرائيل مع العامل الفلسطيني كعامل مهاجر، وتفرض عليه سمات العامل المهاجر، من حيث كلفته المتدنية، وكونه غير مؤهل لأيٍّ من حقوق العمل التي يتمتع بها العامل الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه هو عمل يتوفر بأقل من التكلفتين السياسية والاقتصادية لعمل أفراد مهاجرين أو أجانب.  فالعامل الفلسطيني يعمن في إسرائيل يومياً أو أسبوعياً ثم يعود إلى أحد المعازل التي أحاطتها إسرائيل بجدران وأغلقتها بحواجز عسكرية، وهو ما لا يمكنها أن تقوم به في حالة العمال المهاجرين.

تناقش مداخلة سلمي، بشيء من التفصيل، أوضاع العمال الفلسطينيين المشتغلين في إسرائيل من حيث الأجور، والأمن الوظيفي، وشروط العمل وظروفه، ومخاطر التنفل من مكان العمل وإليه، رابطةً هذا الواقع بالوضع الاستعماري والنيوليبرالي، وبتداعيات اتفاق أوسلو وما فرضه تفشي وباء الكورونا.  وتلاحظ كيف تم التعامل مع هؤلاء العمال من قبل الإسرائيليين باعتبارهم ناشرين للمرض.  وهم يشكلون "الخاصرة الضعيفة أو المكشوفة" للفلسطينيين، وكيف لا تتم مساءلة إسرائيل عن سياستها تجاههم.

ينطلق هاشم أبو شمعة في مداخلته "ليست دولتنا: حول التخيلات الفلسطينية للتحرر" من فرضيتين اثنتين؛ الأولى أن هناك عداءً جوهرياً للفلسطينيين من قبل الدولة الاستعمارية، وهذا يرسم نظامها التراتبي.  إسرائيل تنظر إلى الفلسطينيين كأجساد قابلة للرمي، ومريضة، ومستحقة للموت.  ويبحث أبو شمعة في العلاقة بين الاستعمار-الاستيطاني والعمالة الفلسطينية، ملاحظاً أن أدبيات كثيرة حول الاستعمار-الاستيطاني تمنح العمالة مكانة ثانوية باعتبار أن الاستعمار-الاستيطاني يهدف إلى الاستحواذ على الأرض والقضاء على السكان "الأصليين"، وبالتالي التخلص من العمالة الفلسطينية.  من هنا يطرح الكاتب السؤال حول سبب سماح دولة إسرائيل للعمال الفلسطينيين بالعمل في مشاريعها وسط جائحة عالمية.

وتقول الفرضية الثانية إن ندرة التخيّلات الفلسطينية البديلة للتحرر سببها التركيز الأُحادي الجانب على آليات السيطرة الإسرائيلية، وعلى اختزال التحرر الفلسطيني إلى مشروع بناء دولة وطنية رأسمالية.  ويرى أن إبراز الجائحة للامساواة البنيوية في فلسطين والعالم، يشكل مدخلاً لوضع قواعد لغة سياسية جديدة استناداً إلى تجربة المجتمعات السوداء والسكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية، ومستنداً إلى أفكار باتريك وولف عن سمات الاستعمار الاستيطاني باعتباره بنية مستمرة وقائماً على منطق التصفية، وإزاحة السكان الأصليين عن أرضهم.  ومن هذا المنطلق، يرى أن إسرائيل عملت على تقليص الاعتماد على العمالة الفلسطينية في الوقت الذي ضمنت فيه العكس – اعتماد الفلسطينيين على استعمارها الاستيطاني لضمان هيمنتها الاقتصادية والمكانية.  ويرى أن العمالة لعبت "دوراً مؤسِّساً" في بناء الدولة الاستعمارية الاستيطانية، ودوراً مركزياً مستمراً في إخضاع الذوات الفلسطينية وتحييدها.  ويرى أن العمل الفلسطيني في إسرائيل يشكل جزءاً من بنية تراتبية عنصرية مستمرة، ويلاحظ كيف بدأ أصحاب العمل الإسرائيليون بإلقاء العمال الفلسطينيين الذين يظهرون أعراضاً شبيهة بفيروس "كورونا" على نقاط التفتيش، في الوقت الذي كانت الشركات والمؤسسات الصحية الإسرائيلية تروج بنشاط لمنتجاتها عالية التقنية المتخصصة في المراقبة والسيطرة.  من وجهة نظر الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، الجسد الفلسطيني إرهابي، ومريض، وتهديد وغير جدير بالحماية أو الحياة.  وجادل أبو شمعة بأنه لا يمكننا أن نطالب الدولة التي بُنيت لإبادتنا واستبعادنا بأن تعترف بحقوقنا "إذ يصبح هذا الاعتراف تقنية تطويق وتحييد وإبادة".  ويرى أنه "يجب أن تكون الدولة الاستيطانية موضعاً للمساءلة، مع الهدف النهائي بإلغائها"، وأن غاية النضال الفلسطيني تتمثل في "إلغاء المؤسسات والتراتبيات وطرائق الوجود الاستيطانية، إلى جانب الطرق التي من خلالها يُحَدّ ويُتحكم بذواتنا السياسية، من أجل تأسيس مجتمع جديد".

ويعتبر أبو شمعة أن اتفاقية أوسلو "اختزلت النضال التحرري الفلسطيني إلى نضال من أجل بناء دولة وطنية على جزء من فلسطين التاريخية"، وكانت النتيجة سلب المزيد من الأرض من قبل الدولة الاستعمارية وإقامة مؤسسات للسلطة الفلسطينية التي كثفت من التقسيم الطبقي والنوع اجتماعي داخل المجتمع الفلسطيني، واعتماد سياسات نيوليبرالية تمنح أولوية لرأس المال على الناس، واختزلت "المجتمع الدولي" بمؤسسات الأمم المتحدة والحكومات الرسمية بديلا عن الحركات المناهضة المعادية للاستعمار والاضطهاد والعنصرية، الحليف الطبيعي للشعب الفلسطيني.

 

عن الاستعمار الاستيطاني والعنصرية وحركات الشعوب الأصلانية والسود والنيوليبرالية ومعاناة فلسطين

في الورقة المعنونة "حطامنا في ميدوسا: حوار حول الاقتصاد والذكورة والعرق في إطار الوباء وخارجه"، يتوفر حوار تأملي أنجز في بدايات تشرين الأول/أكتوبر في مدينة فانكوفر بين اثنين من الأكاديميين (هما أنتوي وهيغن).  تنطلق مقدمة الورقة بالتعريف بلوحة عرضت في العام 1819 تحت عنوان "حطام ميدوسا" للفنان ثيودور جيروكول، واللوحة معروضة في اللوفر (وهي رسم لخمسة عشر بحاراً من جنسيات مختلفة من مجموع مئة وخمسين بحاراً هم من بقي حياً على قارب نجاة بعد 13 يوماً من التعرض لأهوال مختلفة).  اللوحة اختيرت كتعبير رمزي لحال البشرية الراهن، حيث أنظمة القمع والاستغلال تسعى إلى اختزال الإنسانية إلى أسوأ ما فيها، ولكن البشرية -كما تقول مقدمة الورقة- تقاوم.

في الورقة حوار حول بعض ما برز خلال الوباء من مظاهر، منها أزمة الذكورة، التي اشتدت بعد فقدان العمل لنسبة عالية من الذكور واضطرارهم للمكوث في البيت، وهم غير مهيئين للعمل البيتي، فملازمة البيت يولّدان ذكورة أكثر خطورة وبيئة تنتج أوهاماً ونظريات مؤامرة، وهذاء نرجسي، وهي وسائل يسعى الذكور (أو بعضهم على الأقل) إلى إعادة الاعتبار لأنفسهم كأسياد للواقع، وهنا مكمن خطورة الذكورة.  ويتفرع الحوار ليطال ملاحظة تحول في نظرة الأجيال الشابة الانسيابية للنوع الاجتماعي (gender)، وتطوع شباب لمساعدة المواطنين الأكثر انكشافاً وعرضة للوباء، وتؤكد المداخلة على أهمية مشاركة بعضنا البعض الانكشاف، كما الثروة، والهوية، والتذويت، والاعتماد المتبادل.  وتندد بالنظرة إلى الوباء الذي اعتمدها الرئيس ترامب (تعريف وباء الكورونا بفيروس الصين) باعتبارها مستوحاة من منظور الشمال العالمي البطريركي النظرة.  يتناول الحوار قضايا عدة أخرى من الصعب جداً تغطيتها، في مقدمة وظيفتها إعطاء مذاق أولي للقارئ لما يحتويه الكتاب من مداخلات حول الوباء وتداعياته الراهنة والمتوقعة.

تحت عنوان "مؤقتات" نقاش حول مدلولات حركة "حياة السود مهمة" في فهم اللحظة الراهنة في الولايات المتحدة بالعلاقة مع حركات أخرى تناضل ضد العنصرية والقمع والاستعمار والاستغلال في العالم، وحركات معارضة تركيبة المعرفة الكولونيالية والنزعة المركزية الأوروبية في مناهج التدريس، ورفض عزل علاقة الاستعمار عن العنصرية، وفي التعامل مع الشعوب الأصلانية، ومساعي موضعة هذه الشعوب في الماضي، وتجاهل تراث العزو الاستعماري والتشريد والتظهير العرقي وسلب الأرض والتغريب والاستغلال العنصريين.  ويذكر ماكس كيف أن حركات التحرر للشعوب الأصلانية وحركات السود فهموا بعضهم البعض من خلال التضامن مع القضية الفلسطينية.  وكيف أن الموت المبكر ناتج ليس عن عنف الشرطة والاستعمار فحسب، بل، أيضاً، عن التوريع غير العادل لحاجات الإنسان (المياه الصالحة للشرب، الطعام الكافي والمناسب، الرعاية الطبية، السكن الصحي، ... وغير ذلك)، وبالتالي نجد التفاوت الواسع في توزيع معدلات الموت المبكر محلياً وعالمياً.  وتنتهي الورقة بقراءة ذكية وعميقة لمعاني اللوحة بشخوصها وحركاتهم ونظراتهم.

في المقال المعنون "قراءة أولية في مدلولات أزمة وباء كورونا"، يطرح هلال عدداً من الخلاصات لعل أبرزها تأكيده على أن الإجراءات المتشددة التي اعتمدت في معظم دول العالم لمواجهة انتشار وباء الكورونا، أدت إلى انكماش شديد في منسوب وأشكال الاستهلاك، وكشفت أن المؤسسات الدينية على اختلاف انتماءاتها، المختلفة، ليست بحوزة ما تقدمه في مواجهة الوباء.  كما كشفت أن السياسة النيوليبرالية، بإطلاقها العنان بدون قيود للربح على حساب أمان ورفاهية الإنسان، فاقمت، إلى حد كبير جداً، من معاناة البشرية، وبخاصة الفئات تعاني من التمييز والإفقار والحرمان المتعمد.  لقد كشفت ليس واقع اللامساواة في العالم فحسب، بل ساهمت في تعميقها وتوليد مظاهر جديدة منها.  ومن هنا دعوة العديدين إلى اعتماد سياسات راديكالية، مغايرة للسياسات التي اعتمدت في العقود الأربعة الأخيرة، بما فيها الدعوة إلى اعتماد سياسات توجد دولة رعاية، ونظام عالمي جديد أكثر تضامناً وفعالية.

سهولة اعتماد حكومات عديدة في العالم لتدابير استثنائية في مواجهة وباء كورونا، أوجد مخاوف مشروعة من أن يتم استغلال للواقع الجديد لتشريع تدابير وقوانين مقيدة وقامعة للقيم والحريات الديمقراطية، وزاد من هذه المخاوف استخدام حكومات عديدة لأجهزتها الأمنية لضمان الالتزام بإجراءات الطوارئ.  ومن الذين أشاروا إلى مخاوف من استغلال "حالة الاستثناء" لمصادرة الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية المفكر الإيطالي، جورجيو أغامبين.  كما اعتبر المفكر المعروف نعوم تشومسكي أن الإجراءات الاستثنائية التي اتّخذتها معظم حكومات العالم أدت إلى تراجع الديمقراطية، وإلى تخلخل النظام الاقتصادي العالمي.  وزادت المخاوف من عواقب هذا الوباء، ومن بروز أوبئة أخرى مع استمرار إنكار ترابط العلاقة بين الطبيعة والإنسان والثقافة (بالمعنى الواسع)، وتمتع رأس المال وأسواقه بالسيادة في تحديد أشكال هذه العلاقة.

يبرز المقال الحاجة إلى إعادة النظر في بنية المؤسسات الدولية وأهدافها ووظائفها، كمؤسسات معنية بخدمة البشرية ككل.  ويشير إلى مخاطر استغلال الوباء لتغذية التوجهات الشمولية والأصولية والعنصرية، والنزعة القومية الضيقة،  ومن استغلال التكنولوجيا الرقمية لإنتاج واستخدام وتسويق أجهزة تتبّع ورصد المواطنين واستلاب خصوصية الفرد.

وينبه المقال إلى حقيقة أن مسار الوباء في الضفة الغربية وقطاع غزة يخضع لواقع سيطرة إسرائيل على حدود كل منهما.  وإلى أن التكوين العمري الشاب في هاتين المنطقتين قد يقلص من مخاطر التعرض للعدوى، ويزيد من القدرة على مقاومة الوباء.  كما يؤثر على هذا المسار واقع المعازل أو الغيتوات التي سيجت هذه الأراضي، وهو واقع يسري إلى حد ملموس على الفلسطينيين المقيمين في الأراضي الفلسطينية التي احتلت العام 1948.  كما يتأثر واقع الفلسطينيين في هذه الأراضي من أن اقتصاداتها اقتصادات تابعة ومسيطر عليها تماماً وتفتقد إلى الاندماج البيني، وتعتمد إلى درجة عالية على التحويلات الخارجية.  كما يشير إلى انكشاف العمال الفلسطينيين في المشاريع الإسرائيلية وتأثير الوجود المكتف لليهود الأرثوذكس في القدس والخليل، وهم الأقل استعداداً لاعتماد إجراءات الوقاية من نشر الوباء.  ويستخلص أن معاناة الفلسطينيين نتيجة الوباء اشتدت نتيجة لمواصلة إسرائيل سياستها الاستعمارية الاستيطانية التمييزية والعنصرية، التي استغلت حالة الطوارئ لتشديد سيطرتها وتقوية النظام النيوليبرالي، واستغلال واقعها الإقليمي والدولي لتطبيع علاقاتها مع أنظمة عربية جديدة.

ويتوقع المقال أشكالاً مختلفة من الانتفاضات الجماهيرية نتيجة استفحال الفوارق في توزيع الثروة والسلطة والمعرفة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة في ظل قصور معظم الأنظمة عن معالجة تداعيات الوباء واحتمالات تجدده، وارتباك العلاقة بين الجمهور والثقافة، لن تستطيع وسائل الاتصال الاجتماعي من سد الفراغ الحاصل.

ويرى المقال أن أزمة وباء كورونا أبرزت الحاجة -على الصعيد الفلسطيني- لصياغة استراتيجية وطنية جديدة بعد أن دُمرت إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، وبعد أن اتَّضحت محدودية دور رأس المال الفلسطيني الخاص، وانكماش دور منظمات المجتمع المدني في الأراضي التي احتلت العام 1967، على أن تتم صياغة هذه الاستراتيجية بعد مراجعة جذرية لدور المجتمعين السياسي والمدني في تجمعات الشعب الفلسطيني الرئيسة.  ويرى أن الحال الفلسطيني يبقى بانتظار ظهور تشكيلات جديدة تحمل أهدافاً تحررية، وتقوم على أسس وقيم ديمقراطية تحررية تتصدى للمأزق الوطني الفلسطيني المركب.