مساق ضمن مسار "مبادرات المعلمين" في "القطان" يتصدَّى لسؤال: كيف نغيّر العالم؟

الرئيسية مساق ضمن مسار "مبادرات المعلمين" في "القطان" يتصدَّى لسؤال: كيف نغيّر العالم؟

كتبت ترتيل معمّر:

 

"وأنت تنطلق إلى إيثاكا

فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة

حافلة بالمغامرة، حافلة بالاكتشاف..."

(قسطنطين كفافيس)

 

بهذه القصيدة اليونانية، استُهِلَّ أحدث مساقات مسار مبادرات المعلمين، خلال شهر تشرين الثاني الماضي، التي تنفذها وحدة التكوّن المهنيّ/برنامج الثقافة والتربية في مؤسسة عبد المحسن القطان، ضمن مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية، الذي يهدف إلى تطوير قدرات المعلمين/ات في المدارس، من خلال التعلم عبر المشروع والمبادرة الاجتماعية، منتقلين بهذه القصيدة إلى بعد جديد وأكثر عمقاً في هذا المسار، متسائلين؛ "كيف نغير العالم؟".

 

استند هذا المساق الذي امتد على مدار يومين تدريبيين، إلى توظيف المنتجات الثقافية كأدواتٍ للتغيير المجتمعي، سعياً إلى خلق تعليم حواري ونوعي، لبناء تدخلات تعزز المشاركة في المدرسة والمجتمع.  وخلال المساق، وُظفت منهجيات الكتابة والمحو، والمسرح لطرح القضايا، والمناظرات، ووسائل التواصل الاجتماعي، كما استخدم المساق أدواتٍ مختلفةً بطرقٍ متعددة، وفتح مساحات التفكير فيها كفعل مجرد، مثل قراءة مقالات ونصوص حول فهم فعل التغير، وقراءة الشعر لفهم مهارة القراءة الواعية، ومشاهدة مقاطع من أفلام.

 

تمركزت أنشطة المساق وورشاته كافة، على غرس ثقافة مفادها أن الطريق ليس سهلاً، لكنه لا يقل أهمية عن الوصول ... .  بهذه الفلسفة أُدير النقاش خلال المساق، وبهذه الفلسفة تبنى الرحلة؛ رحلة مجموعة من المبادرات المدرسية التي سيتم تنفيذها في مختلف المدارس باختلاف مناطقها في فلسطين.  فيما تهدف هي بالجوهر إلى الوصول، من خلال التفاعل الاجتماعي بين المشاركين في مسار مبادرات المعلمين ومحيطهم، إلى خلق حالة من "عدوى التغير" لأكثر من ذلك بكثير.

 

استعرض المساق مقاطع من فيلم (Pay It Forward) الذي يحكي قصة طفل يُطلب منهم في المدرسة بناء خطة لجعل العالم مكاناً أفضل، لتأتي خطة هذا الطفل على أن يقوم بمساعدة شخص ما، ويطلب منه أن لا يرد الجميل له، إنما يقوم بعمل خير أو مساعدة ثلاثة آخرين، وكل شخص يقوم بالمثل، لتتشكل حلقة وسلسلة متتالية من أعمال الخير، التي من شأنها أن تغير حياة الناس، وأن تغير، بالتالي، العالم.

 

وخلال المساق، نوقش قول المفكر التربوي الفلسطيني منير فاشة في واحدة من مقابلاته: "إن الحياة في العمق لا يستطيع العقل أن يدركها كلياً، والأمر نفسه بخصوص اللغة والفكر، فلا يستطيعان استيعاب الحياة كلياً، أما بالنسبة لوالدتي وكونها لا تعرف نظريات ولا أبجديات، فقد عرفت الحياة بالاحتكاك بها مباشرة؛ أي وجهاً لوجه، والواقع بالنسبة لها تراه ويراها، ولا توجد مسافة بينهما، فالعقل قدرته هائلة، ولكن في الوقت نفسه نجده لا يستطيع أن يفهم الواقع بعمق، وعليه يجب علينا أن نكون متواضعين، وأن نعود إلى التعرف إلى الواقع مباشرة، وليس من خلال النظريات والمفاهيم، ويجب أن نكون أكثر وعياً لعمق الحياة". وفي ضوء هذا الاقتباس، تولد نقاش مهم تحول إلى مناظرة خاضتها المعلمات والمعلمون المشاركون في المساق حول التعليم بين الفهم والانخراط، هل هناك وحدة للنظرية والممارسة؟ أم كما طرح جيجيك في واحدة من مقالاته التي تم استحضارها في التدريبات، بأن علينا أن نفهم العالم أولاً؟

 

خاض المعلمون/ات في المناظرة كتجربة جماعية لبناء معنى مشترك من خلال السياق، فالمعاني تختلف من شخص إلى آخر، وإن تشاركوا في ترميزها برمز واحد مشترك.  وتعتمد التدريبات على فلسفة مستندة إلى ثقافة التعبير الرمزي، التي تحفز المخيلة، وتحاول دائماً كما في قصيدة كفافيس؛ أن تحفزنا على إعطاء كل شيء حقه من الزمن، والتفكير.  كما يحاول المساق تقديم نموذج مغاير عن الفعل المجتمعي المقطوع عن سياقه، وإن كان يخدمه، يأتي مسقطاً على المكان، لا يندمج معه أو فيه.  بل على العكس، صمم مسار مبادرات المعلمين كاملاً ليتفاعل معه المشاركون معرفياً ونفسياً وجمالياً، مندمجين مع الأدوات والأفكار عضوياً، لتحقيق الجدوى الفضلى من الممارسة، وليخرجوا منه كونهم جزءاً من المجتمع ببناء وتصميم لمبادرة قائمة على فكرة يمكنها إحداث تغيير ما، ووضعها داخل فعل؛ سواء أكان على مستوى المدرسة أم المجتمع، ليخرج المعلمون/ات والطلبة مشتبكين مع قضاياهم، ما يتيح لهم الفرصة أن يفكروا بأدوات يعيدون بها بناء عالمهم بعيداً عن التلقي الجامد، وينتجون حكاياتهم بلغتهم الأصيلة.

 

هذا، وتتكامل الورشات ضمن المسار كسلسلة من الأسئلة والمفاهيم والأدوات بهدف بناء معرفة متسعة قدر الإمكان، مشكلةً اللوحة الكاملة التي فيها لكل لون دور، ولكل مرحلة عمل أكثر، وهدف أكبر من غاية الوصول إلى النتيجة.  كما يحاول هذا المساق تعزيز مفاهيم الرحلة وما تحمله من تجربة وتعلم، ودور هذه الرحلة في خلق نتيجة أكثر تأثيراً، لاستنادها إلى عملية تكوين ناضجة بنيوياً، تأسيساً لإحداث التغيير من صلب النظام التعليمي، ومن خلال العاملين فيه، إيماناً بأن المدرسة قادرة على أن تشكل وحدة للحوار والعمل، للانطلاق منها نحو التغير المجتمعي.

 

واختتم المساق بطرح مجموعة من أفكار المبادرات التي يتم العمل على تطويرها في مدارس فلسطين المختلفة، والتي يهدف بعضها إلى إيجاد مساحات تفاعلية، وأخرى تهدف إلى ترميم مواقع مهمة، وتطوير بيئة المدرسة، أو دمج الأمهات وتعزيز دورهن في المجتمع، لتتم مناقشتها بشكل جماعي، وتفكيكها لفهم أبعادها المختلفة من وجهات نظر متنوعة، إضافةً إلى محاولة إيجاد طرق بديلة بشكل جماعي، بحيث تتشابك هذه المبادرات كوحدة واحدة، لتخدم هدفاً كبيراً؛ وهو التغير والتحسين المستدام.  فيما تُخرج هذه المسارات المعلمين من وصفهم الوظيفي، ليقوموا بدورهم المجتمعي المسلوب في وقت أصبح فيه الإنسان لا يعرف نفسه وقيمته.

 

تتباعد الخطوات، وتتشابك، إلا أنها مجتمعة تشكل الطريق، فيقول محمود درويش: "كلما طال الطريق، تجدد المعنى"، ونجدد نحن سؤالنا، من كيف نغير العالم؟ ... إلى كيف نفهم العالم من خلال انخراطنا فيه، لنغيره؟

 

يأتي مسار مبادرات المعلمين بتمويل مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC).