"إن التراكم التاريخي والوعي والنضج من خلال التجربة السينمائية الفلسطينية، هو ما أنتج ما يوجد لدينا في السينما اليوم، وليس مقروناً بالأحداث التاريخية الراهنة أو بالربيع العربي فحسب"، كما يقول نديم جرجورة الصحافي والناقد السينمائي. وهو ما ينطبق، أيضاً، على السينما الفلسطينية، وعلى الواقع بشكلٍ عام، وعلى تساؤلاتنا المستمرة حول ما سنصل إليه.
في خضم مساءلة الأزمة الحالية الناجمة عن أزمة كورونا، والعمل الثقافي السياسي الفلسطيني بإطاره الأوسع، أطلقت مؤسسة عبد المحسن القطان سلسلة ندوات "الثقافة في الأزمة، الأزمة في الثقافة" هذا العام، وهي سلسلة حوارات بالتعاون مع قاعات الموزاييك في لندن. وسلطت الندوات الضوء على إشكاليات عملنا السياسي والثقافي في مواجهة الاحتلال بمختلف أشكاله، وعلى حياتنا اليومية الاستهلاكية وطريقة عملنا في المجال الثقافي والأهلي غير المستدامة، والمعتمدة على التمويل، وعلاقة الأزمة في شعوب الجنوب والشعوب العربية حسبما عرّفها مدير البرنامج العام في مؤسسة عبد المحسن القطان يزيد عناني.
تطرقت ثلاث ندوات من السلسلة إلى موضوع السينما العربية والفلسطينية بعد عشر أعوام من الربيع العربي، واستضافت عدداً من الأسماء المهمة في مجال السينما العربية والفلسطينية. تناولت الندوة الأولى، التي عقدت بتاريخ 17 آب 2021، الإنتاجات السينمائية العربية والمهرجانات خلال الربيع العربي وبعده، ومع تطبيقٍ عام للنظريات السينمائية على السينما الفلسطينية. أما الندوة الثانية، التي عقدت بتاريخ 21 أيلول 2021، فقد تناولت التاريخ المؤسس للحظة الربيع العربي، وتهالك الأنظمة بمختلف أشكالها بعد تلك اللحظة التاريخية، وتراكمية السينما الفلسطينية التي لم تتأثر تحديداً بالربيع العربي، بل كانت مبنية على وعي ممتد خلال الأعمال المختلفة خلال العقود السابقة. وركزت الندوة الثالثة، التي عقدت في 26 تشرين الأول 2021، على السينما الفلسطينية، وتأريخ الربيع العربي والتصوير السينمائي بشكل عام، وحال السينما والحالة الثقافية الفلسطينية الآن.
وتناولت الندوات مجموعة مواضيع بدءاً من تأريخ الربيع العربي، واتساق اللحظة مع سياق المنطقة العربية، مع ذكرٍ مستمر لأهمية معالجة المفاهيم تاريخياً واجتماعياً، لأنها تحدد تعريفاتنا للربيع العربي والعروبة والفكر المصاحب لها، ومعنى الكسر الثوري في السينما؛ بمعنى أنها أعمال أسست لشكل جديد ومختلف، تحوَّلت فيه صورة الفلسطيني من الضحية والمقاوم، إلى حياته اليومية، والصعوبات والسهولات اليومية تبعاً للظرف التاريخي والاستعماري الذي يمر به. حلَّلت الندوات تاريخ السينما العربية والفلسطينية، وصولاً لما نحن عليه اليوم، وظروف الإنتاج والإخراج، ونقطة الالتقاء بين السينما والثورات العربية وما نعيشه اليوم من تفكيك للمنظومات السابقة، وبروز لدور الثقافة والفن والسينما المستقلة، وختاماً بكيف نقرأ السينما اليوم، وما ستؤول إليه ضمن الإطار الأوسع من حراك ثقافي وسياسي وحالة سعي إلى التحرر.
السياق التاريخي للربيع العربي
لا يمكن فصل اللحظة التي أنشأت الربيع العربي عن اللحظات التاريخية السابقة التي كانت دوماً نتيجة الهيكلية السياسية للدول العربية، وكانت قد بدأت مع ظهور الدول العربية القومية ما بعد التحرر من الاستعمار، التي كانت فلسطين قضية في صلبها.
وتنفي رشا السلطي، وهي باحثة وقيّمة معارض وأفلام، من خلال السرد التاريخي، نظرة الغرب لنظرية "التقبل العربي" تبعاً للمؤرخ البريطاني إيريك دوري، بكون التبعية راسخة في تقليد العرب الاجتماعي والإسلامي، بحيث نستدل، على العكس تماماً، من الحراكات الاجتماعية والعمّالية والهوياتية في العالم العربي، بعد تأسس الدول العربية في سبيل تحقيق إرادة الشعب في تغيير واقعهم، والظلم الذي يتعرضون له بشكلٍ جمعي.
إن السياق التاريخي أسَّسَ للحظة الربيع العربي في 2010-2011، ولم يكن غريباً عن المنطقة وسياقها التاريخي، وهذه الحراكات أسست لشكل ذاكرة ثقافية وشعبية موجودة حتى اليوم، وممتدة في الأغاني والشعر والأدب والكتب التي تحركت بشكلٍ أسهل من الأفلام في مراحل سابقة، كونها لمجتمع وجيل لديه في المتخيل امتدادٌ لعملية الحرب والصراع المستمر، الذي كان، في البداية، ضد المستعمر، ولاحقاً داخل الأنظمة السياسية في الأجيال المتعاقبة. وتصفها ليلى دخلي المؤرخة والمختصة في التأريخ الاجتماعي، بكون المنطقة العربية في "صراع طويل من أجل الكرامة في العالم العربي، للتحرر من الاستعمار والكولونيالية، وهو ما شكَّل ذاكرة جمعية تعبِّر عن الشكل الذي يجب أن يكون عليه الصراع في العالم العربي".
امتداداً لهذا السياق، فإن شكل الاشتباكات كان مختلفاً في لحظة الربيع، وأدى إلى خطابٍ تجديدي في المنطقة، نتيجة التراكمات بغض النظر إن حققت مطلبها أم لا. والحراكات لم تكن هي لحظة الربيع الفلسطيني المختلف نسبياً عن العالم العربي، ويمكن تأريخه حسبها، ورده إلى حقبة الستينيات والانتفاضة الأولى، بكونها فعلاً جمعيّاً منظماً أشبه بالربيع، وما كان منذ عشر سنوات عربياً، أضاف حسّاً تحررياً بظواهر تفكيكية للهيمنة والسلطة بوضوح حسب راما مرعي، المخرجة والمحاضرة في التصوير السينمائي.
يكون الربيع العربي، في هذا الإطار، حدثاً افتتاحياً ولا تكفي فقط عشر سنوات لتوقع اللحظة وتحليلها، ولكنه تحوَّل بذاته ليكون أيقونة الثورة والحرية، والمتمثل في أبسط الأشكال مثل عبارات الناس في الشارع، والتصرف بأجسادهم بشكلٍ جديد ومبتكر أحياناً مثل الرقص في الميادين والساحات، وأشكال التوثيق الفردية والجماعية، التي نرى فلسطين في صلبها على امتداد العالم العربي، وبخاصة بوجود فلسطين في المخيلة الجمعية للشعوب كنموذج للإصرار في صراع مستمر ضد الاستعمار وتوقها للتحرر.
أما فلسطينياً، فنستذكر عبارة مهند اليعقوبي، صانع الأفلام ومنتج وأحد مؤسسي "إديمز فيلم للإنتاج"، قائلاً "في اللحظات التي كنا نشاهد فيها على التلفاز توق الشعوب في الشارع للتخلص من استبداد الأنظمة السياسية ومن "الكراسي" عربياً، كنا على دوار المنارة وسط رام الله نرى مجسماً ضخماً لتمثال كرسي يعبِّر عن صراع السلطة الفلسطينية للانضمام للأمم المتحدة، وهنا اختلفت الصورة كلياً لدى الفلسطينيين في خِضم التحرُر من الاستعمار ومن القيود المفروضة من السلطات المهيمنة على الفلسطينيين في فلسطين التاريخية وفي المنفى".
الإجماع على السياق التاريخي الذي أدى إلى لحظة الربيع العربي، اختلفَ قليلاً عند الحديث عمّا نتجَ عن هذه اللحظة، ليس في السينما الفلسطينية تحديداً، ولكن في شكل التفكير بالإنتاج والمنظومات الموجودة ككل، في تفاوتٍ بين أثرٍ مباشر في خلخلة المنظومات الفلسطينية، وفي تراكمٍ تاريخي سابق كانت الثورات جزءاً من امتداده.
أرشيف سينمائي ضخم وتراكمات معرفية
كثيراً ما نتناسى في السينما العربية والفلسطينية التطرق إلى الإنتاجات المؤسِّسة من مخرجات ومخرجين عرب في عشرينيات القرن الماضي، التي كانت بشكلٍ فردي أو جماعي. ونلاحظ أن الأفلام التي صدرت في الربيع العربي وما بعده، لم تكن إلا امتداداً لتاريخ الإنتاج السينمائي في مصر والمغرب والشام، والتي بدأت تقدِّم الثورات وأساليب التحرر عبر أدوات التعبير الشخصية والذاتية اليومية والسردية، مستخدمة اللغةً السينمائية والتفكيكية حسب المشكلة والموضوع المعالَجْ، تبعاً لفيولا شفيق؛ قيّمة الأفلام والمختصة أكاديمياً في السينما العربية.
يوجد أرشيف سينمائي عربي وفلسطيني ضخم باختلاف أشكاله في الداخل والشتات، وهذا الأرشيف المبعثر بشكلهِ السينمائي، الذي أنتجت منه بعض الأفلام، هو ما أسَّس لصناعة السينما اليوم، وما سنراه في السنوات القادمة، وبخاصة توظيف التجارب الفردية لذاكرتها ولذاكرة المحيطين بها في السينما.
تتموضع هذه الأجزاء معاً لتعبِّر عن ذاكرة فيها النكبة هي الحدث المؤسس ولحظة الصدمة، التي تُتَرجَم في السينما الفلسطينية والمخيلة الجمعية العربية، باعتبارها لحظة حراك موحد واضح في الشارع. وجاء الربيع لتغيير معنى الإعلام والمقولة، وتداول الكلمة والكاميرا، ما سبَّب تغيراً في البنية السياسية والتقليدية للفعل الثوري مثل الأحزاب، والحركات الأيديولوجية، وانهارت جميعها في مقابل خلق أنماط تفكير جديدة.
من المثير للاهتمام أن صناع الأفلام استطاعوا العمل على مراحل، وكانت بدايتها وجود إنتاجات عربية فلسطينية الجوهر، أبرزها "باب الشمس"، والمستوحى من رواية الكاتب اللبناني إلياس خوري، والمخرج المصري يسري نصر الله، والذي نلمس أثره حتى اليوم مثل تخييم الفلسطينيين في قرية مهددة بالاستيطان شرقيّ القدس وتسميتها بـ"باب الشمس" في العام 2013. ولهذا، من المهم التنقيب في الأجزاء المبعثرة والمجزأة من السينما الفلسطينية والممتدة عبر ذاكرة الفلسطينيين والعرب والعالم بشكلٍ أوسع.
"إن الأرشيف السينمائي الضخم هو تراكمات التصوير والسينما العربية والفلسطينية، التي نرى أنها من مسار فكري مكوّن من أجزاء وشظايا ورموز، والحاسم هو أن السينما الصاعدة تعود اليوم إلى الشكل التنظيري بين الأجزاء والرموز، التي تتشكل من موضعة الأجزاء، مثل سينما مهدي فليفل، كما يقول حميد دباشي، أستاذ الأدب المقارن ومؤسس قسم الدراسات الفلسطينية في جامعة كولومبيا، والمختص في الدراسات الإيرانية.
إن الأرشيف الموجود؛ أكان عاماً أم خاصاً، مجمّعاً أم مبعثراً، هو غير عادي، وخُلِقَتْ منه الأفلام التي تحكي عن المجتمع والأفراد والحركة والانفعالات وعلاقة المخرجين بالأهل والمدينة والذكريات والطفولة. وما يُصنع في السينما الفلسطينية اليوم، هو وعي وتتمة التراكم والنضج، باستخدام تقنيات متعددة متداخلة تحكي مختلف القصص عن الفلسطينيين في الداخل والخارج، ومع الإسرائيليين، وبتقنيات التحريك والتمثيل للتعبير عن وقائع عيشت وتعاش. وعلى الرغم من أن الربيع العربي "قتل في أول أيامه، والسينما لم تقتل واستمرت في أماكن وطرق وأقوال جديدة" كما يقول نديم جرجورة.
المنتج والمشاهد والمتلقي
إن الإنتاجات السينمائية والأفلام في بداية الربيع هي ردة فعل ثورية، وعلى الثورة، وتحديداً في مصر، مع مسار محدد جداً سينمائياً بفن دراماتيكي كان خاصاً بتلك الإنتاجات، وتأثرت المرحلة، بسهولة بوجود تقنيات الإنتاج إلكترونياً في تلك الفترة، وعند تنسيق جوزيف فهيم، ناقد الأفلام المصري، لمهرجان بمناسبة 10 سنوات على ثورة يناير، يذكر كيف واجهتهم مشكلة حقيقية قائلاً: "لم نستطع الحصول على حقوق الكثير من الأفلام أو عرضها بعد أن أصبح بعضها منسياً أو مدفوناً، ورفض الكثير من الصناع إظهارها أو الحديث معهم بسبب القلق والخوف السياسي، مع أن الحديث سينمائي بحت، وليس سياسياً".
لم يعد الملتقي ذاته بسبب وجود مختلف أشكال الوصول إلى المعلومات والأفلام، ولم يعد الإعلام التقليدي الأداة الأساسية لعرض الآراء، فنلاحظ وجود الكثير من السينمائيين المستقلين الذين يقدمون عروضهم عبر منصات خاصة، أو في مهرجانات وفضاءاتٍ خاصة ومستقلة؛ ففي مرحلة ما، كان للإعلام التقليدي دورٌ مؤسسٌ في أمريكا وأوروبا في تطوير العملية الثقافية في ستينيات القرن الماضي، واختلفت مساحات التعبير اليوم، وبخاصة مع انتشار الفساد الإبداعي، وهو حالة من إساءة استخدام السلطة والموارد في الحقل الإبداعي والثقافي بمجمله، لتحقيق مكاسب شخصية واستبعاد المنتجين والفنانين الذين لا يندمجون ضمن توجهات المؤسسة الرسمية، أو ضمن الرواية الرسمية التي تقدمها الأنظمة، قامعةً ومستبعدةً كل من يعاديها أو يتطرق إلى فساد المنظومات السياسية.
مع التغيرات الكثيرة، أصبحت صناعة الأفلام مختلفة مع الواقع والصراع السياسي مقارنة بدوغما المانفيستو 1995. ومع التغير، أصبحنا نتحدث عن الواقع أمام الشاشة والكاميرا، والكاميرا الحرة من الستاند، وحرة من مكان التصوير الواحد، وهو ما تزامن مع تغير في الجانب التقني، بوجود أدوات تصوير أسهل وأرخص للجميع. هنا غابت أهمية جودة الصورة مقابل التقاط الفعل المتحرك، لتصبح الكاميرا محركاً سياسياً للشارع، وأداة مهمة للثورة. مثلاً، صدر كتيِّب إرشادات من "مصرّين"، ليكون إرشاداً لتعليم الناس كيفية إنتاج الأفلام والصور والتحرك سياسياً من خلالها، وهو كتالوج تقني يشرح حركة الإطارات في الصورة سياسياً واجتماعياً. وسهَّلت العوامل مجتمعةً، إنتاجات صدرت من فكرة "صحافة المواطن"، التي أصبحت تستهدف منصات الإعلام والأفلام العالمية، والمنتجين، والممولين من حول العالم.
وكنتيجة للفساد الإبداعي، ولقمع التعبير عن الرأي بحرية، ومع تولد قنوات جديدة للوصول إلى المعلومات، أصبحت الأفلام تركِّزُ على قصة الفرد وفردانيته والذاكرة الشخصية والوعي الناجم عنها، وظهرت سلسلة من الفرص الجديدة عبر مختبرات الأفلام والسيناريو والميزانية والضوابط التي تقدم في المهرجانات لصناع الأفلام العرب، في مقابل الأنظمة القمعية. وانتشرت منابر صحافية أدبية تحاول كسر العلاقة المحكومة بالتمويل الخارجي، وأصبح ظهور السينما البديلة حلاً للقيود المعتادة، ولهذا صعَدَ عدد من الموزعين المستقلين، ومساحات سينمائية مستقلة، وأدوات العرض الرقمية على الإنترنت المتاحة للجميع، حسبما تسرد شيماء بو علي، وهي منتجة برامج تتناول السينما العربية، وتعمل معدَّة لبرنامج "سينما بديلة".
هكذا أصبح هناك مسلَّم تم تجاوزه في البحث عن الأدوات الفنية والتعبيرية ولغة التجريد والتجريب بعد انهيار للبنية التنظيمية الراسخة في أذهاننا حول شكل الأفلام ومركزية الجهات الفاعلة، ومن هنا، يشير صالح ذباح، الكاتب في الصحافة الثقافية، والباحث السينمائي الفلسطيني، إلى عبارة كمال الجعفري صانع الأفلام الفلسطيني: "إن الفساد السياسي يؤدي إلى فساد سينمائي بشكل معين"، ومن هنا نتساءل عن أهمية وجود رصد لآخر 15 عاماً بشفافية، والتساؤل عمَّن يحصل على التمويل بالعودة إلى سيادة المحتل، وسيادة المحيط العربي، وسيادة الغرب، وإلى تحليل أشكال هرمية خاضعة لشكل من الطبقية الاجتماعية، أو التقرب السياسي، أو المبادرات التي شقَّت طريقها في غياب منظومة متكاملة.
وفي حالة موزاية للفساد الإبداعي، نتج بعد الربيع العربي كمٌ هائل من الوعي في فلسطين للتمويل وشروطه، وما يمليه علينا من خطاب سياسي ومن أدوات تفكير وتعبير وتنظيم، كما نتجت سابقاً في لحظات مفصلية كالانتفاضة الأولى، وعند توقيع اتفاقية أوسلو. ويقول مجد كيال، وهو روائي وصحافي فلسطيني: "إن الشبه بين السينما والثورات العربية والحالة السياسية العامة، هو كيف استطاعت الثورات أن تولد طرق تفكير مختلفة، وتغيير رؤيتنا للعمل، من أجل إعادة النظر في العلاقة الوطيدة، وغير القابلة للفصل، بين ظرف الإنتاج والمضمون المنتج الذي نقدمه أو نشاهده".
التجارب السينمائية الفلسطينية
فاجأتنا السينما العربية والفلسطينية في السنوات الأخيرة بانخراطها سياسياً، وساهمَ تطور السينما الوثائقية في آخر عقدين لتشكِّل تداخلاً مهولاً من التعبير والتجارب والتجريب جمالياً وسينمائياً، ونلاحظ أننا أصبحنا نرى أعمالاً مختلفة بناءً على تراكمات الإنتاج السينمائي، وهو ما فتح باباً للصور الجمالية، والنظر من جديد للمخرَجات مثل "فلسطين الصغرى" لعبد الله الخطيب، والحديث عن الجوع في مخيم اليرموك 2019، و"إبراهيم: إلى أجلٍ غير مسمى" للينا العبد. فلم تعد الأفلام محصورة في فلسطين التاريخية، بل أصبحت السينما تعطي أصواتاً لمختلف الرسائل والقصص، وهي ليست من صنّاع أفلام أو دارسين في مجال السينما الكلاسيكية، بل هم استخدموا الكاميرات الصغيرة لالتقاط الحياة اليومية، والمعالجة، والمونتاج، والسيناريو، لتشكيل الصورة السينمائية ككل.
إن النواتج الفلسطينية بصوتها الجديد التجديدي المشتبك بالواقع، أصبحَ متمثلاً في السينما، وأشكال الفن والثقافة المتصاعدة مثل الراب، وغيرها في المنطقة. وفكرة ارتباط الواقع بالفن ليس غريباً بعد الاهتمام بالعولمة والتبادل الثقافي المتصاعد في آخر عقدين، فأصبحنا قادرين على مشاركة قصتنا مع العالم، وكسب التضامن من شباب واعٍ بتاريخه الكولونيالي، الذي قام بإسقاط أنسنة الشعوب الأخرى. فتقول راما مرعي: "لسنا وحدنا من يشعر بأننا نقحمُ في قوالب سردية يجب أن نستمر بها من أجل الجمهور السائد في العالم، ولكن المفارقة هي أن التجريب في السينما، حدَّ من القدرة على استذكار الطرق المفروضة، فيعكس الفلسطيني قصته بطريقته التي يختارها اليوم".
تغيَّر التمثيل البصري للفلسطينيين على مختلف الشاشات عبر العقود الأخيرة، وما يترجمه عن حياة الشعب الفلسطيني. في هذا السياق استعرضت ناديا يعقوب، وهي محاضرة وباحثة في السينما العربية، التمثيل البصري لقطاع غزة "على الشاشة"، حيث بدأ تطور الأفلام فيها بعد النكبة بعقدين عبر "وحدة الأفلام الفلسطينية"، وفي السينما العربية والسورية في السبعينيات، وعبر عددٍ بسيط من الإنتاجات في الثمانينات من صناع أفلام غربيين، لتبدأ في التسعينيات أول الأفلام الروائية لميشيل خليفي "الجواهر الثلاث"، ويليها الكثير. تقول يعقوب "ما زالت الإنتاجات البصرية تتحدث عن الجوع والازدحام والفقر والمقاومة في سجنٍ مفتوح السماء، ولكن في الوقت نفسه، أصبحت تعبِّر عن الصدمة التي تعرّض لها الغزيون مع بروز جهود إبداعية جديدة توسع المخيال عن حيز قطاع غزة".
أسَّسَ الربيع العربي لمراجعة البنية والمنظومة السياسية والاجتماعية، وطرق الصدام والتحدث بصوتٍ بارز أسس لخروج عن المنظومة السائدة والتنظيمية بالأشكال كافة، وبهذا أصبحنا نعيد قراءة المجال الثقافي الفلسطيني، وبخاصة في السينما. في الرأي المقابل كلياً، يؤكد نديم جرجورة أن السينما الفلسطينية لم تحتج لتأثيرات كبيرة لأنها قادرة على "توليد نفسها بنفسها"، ويشير لوجود أنماط مختلفة بدأت بتصوير الفلسطيني الضحية والبطل، ليأتي ميشيل خليفي ويكسر هذا الحاجز بـ"كسر ثوري" يلغي فكرة البطل والضحية، وتتحول عبره السينما إلى الحديث عن الأفراد ضمن الحيز الأعم، وهو ما راكمَ الوعي للوجود لتغيّر ضخم في آخر عشر سنوات بزيادة العمل الفردي من حيث العمق، والوعي، والثقافة، والاطلاع، والمتابعة، والبحث، والتنقيب، للوصول إلى لحظة جماعية جديدة.
وعند الحديث عن مسيرة السينما الفلسطينية، بشكلٍ مقتضب وسريع، فقد بدأت بسينما الثورة وبعدها ميشيل خليفي كلحظة كسرٍ ثوري، يليه مهدي فليفل، وآن ماري جاسر، ومهند اليعقوبي، وإيليا سليمان، ورشيد مشهراوي، وهاني أبو أسعد، وخالد جرار، وإنتاجات مثل "فلسطين الصغرى" و"فلسطين التي لنا" و"المطلوبون 18"، و"أثر المادة السحرية" ... وغيرها الكثير.
المستقبل إلى أين؟
تراوحت الأسئلة المفتوحة في نقاشٍ زخم عن الأزمة التي نعانيها اليوم في السينما والمشهد الثقافي العام، وأبرز وضوح كان هو أننا لن نرى أثر الربيع العربي في السينما اليوم، لأن قراءة الفعل ورد الفعل ستحتاج إلى سنواتٍ كثيرة؛ وبخاصة بعد موجات الثورات المضادة، وبعد تغير خارطة المنطقة الجيوسياسية، وبخاصة أن السياسة أصبحت تسبق السينما في الكثير من الحالات. وتكون العلاقة بين السينما وفكرة الثورة الدائمة مستقرة على كاهل المخرجين السينمائيين الجدد والمستقلين، لتجميع وتوثيق الذاكرة المبعثرة للتعبير عن اللحظة اليوم.
ومن أجل تحليل هذا الإنتاج السينمائي العربي والفلسطيني، يجب أن ننظر إليه كقطعة ضمن الصورة الأكبر للإنتاج الفني والأدبي العربي المنتشر اليوم ككل، من أجل تحليل أدق وأعمق. نجدُ مثلاً أنماط الفن الشعبي المنتشرة مؤخراً من خلال المهرجانات الشعبية، أو أغاني الفيديو كليب، وما يوازيها، ونلاحظ فيها تركيزاً على صورة الشاب ذي القوة والمال والشكل الجسماني المحدد بقوة وعضلات (تصوّر الرجل الألفا Alpha Male) الذي تلتف الفتيات حوله –مثل محمد رمضان وسعد المجرد- ونجد صورة الفتاة التي تهتم بالجمال الخارجي فحسب، وتريد رضى الشاب بأي شكل من الأشكال، وهي أنماط يحاول العالم التخلص منها، ولكننا نجدها تتكرس في الفنون الشعبية العربية مؤخراً. كما نستطيع أن نلاحظ الأنماط المتعددة التي تنتشر في العالم العربي دون سلطة "الأنظمة"، وقد يرجع السبب إلى أن "الأنظمة" فقدت السيطرة على المحتوى الذي ينتشر بأي شكل، وبخاصة إن كان فيه تحدٍ سياسي أو اجتماعي.
في الندوات ككل، أجمَعَ المتحدثون على أن الأفلام العربية والفلسطينية لن تشهد تطوراً حقيقياً دون وجود نقدٍ حقيقي بلا قلق وخوف من الاختلاف في الرأي بين صناع الأفلام والعاملين في الحقل الثقافي والمشاهدين. النقد والنقاش في المنتج السينمائي والثقافي هو ما سيقدم قراءة لدور الأفلام وأثرها في الثقافة وعلى الأرض، ولمعرفة الإجابة عن أسئلة كثيرة مثل: هل للأفلام دور يضيف ويوجّه الثقافة والواقع، أم أن الواقع هو ما يوجه السينما؟ وهل السينما مُستشرِفة/سابقة للواقع أم أنها متأخرة عن الفعل السياسي والاجتماعي الذي نشهده اليوم؟ النقد والقراءة المعمَّقان للإنتاج السينمائي سيؤديان إلى إنتاج أكثر إبداعاً، وسيحفزان العمل على إعادة هيكلة التصوّر الفني، وخلق لغة سينمائية جديدة تقفز عن مشكلة العائق المادي والممولين التي تواجه صناع الأفلام.
تختم فيولا شفيق بعبارة "إن قوة التمثيل هي التمثيل بحد ذاته"، ولهذا يجب الاستمرار في معاينة العلاقة الجدلية مع ظروف الإنتاج، وكيف نرى وننتج أعمالاً سينمائية جديدة ليكون السؤال: هل كانت الأعمال ناجحة فعلاً في رواية قصتنا أم أننا ننتج في آلية خاضعة للمفاهيم الرأسمالية؟ وكيف يجب أن ننتج السينما في العالم؟ ولمَن؟