قصة "عازف المزمار" تقود ورشة في الدراما في التعليم

الرئيسية في القطان الأخبار قصة "عازف المزمار" تقود ورشة في الدراما في التعليم

بما أنّ "الدراما" لا تُلزمنا بخطّ الزمن الاعتياديّ كما تفعل القصص؛ إنّما تستطيع أن تنقلنا إلى العام 2030، وثمّ تعيدنا إلى القرن السادس عشر في اليوم ذاته، ليصبح المستقبل والماضي حاضريْن هنا والآن، لذا لا ضيرَ من أن نبتدئ التقرير من النهاية؛ حيث اختُتمت ورشة عملٍ في الدراما عقدها برنامج البحث والتطوير التربويّ/ مؤسّسة عبد المحسن القطّان- على مدار يوميْ السبت والأحد 4-5/ حزيران – في جمعية الهلال الأحمر في البيرة، باقتباسٍ من كتاب "النبي" لجبران خليل جبران يقول: " أولادكم ليسوا أولاداً لكم، إنّهم أبناء الحياة المشتاقة إلى ذاتها ... وفي وسْعِكُم السَّعي لتكونوا مِثلهم، ولكن لا تُحاولوا أن تَجْعَلوهُم مِثْلكم ... أنتم الأقواس؛ منها ينطلق أبناؤكم سِهاماً حَيَّة".

 

غادرتْ حوالي أربعين مربيّة لمرحلة الطفولة المبكّرة الورشة يحملن ملاحظاتهنّ والعديد من الأفكار والتساؤلات بعد ما قدّمه مدير البرنامج وسيم الكردي خلال يوميْن حول توظيف الدراما في التعليم، معتمداً قصّة "عازف المزمار" نموذجاً ومدخلاً لتطبيق الدراما؛ حيث تدور قصة "عازف المزمار" في مدينة هاملن الألمانيّة، التي غزتها الجرذان مُلحقةً الضرر بالمحاصيل ومسبّبة الأمراض في المدينة؛ ليتمّ الاتّفاق لاحقاً مع عازفٍ يزعم أنّ ألحانه تستطيع إبعاد الجرذان عن هاملن إلى الأبد، على أن يتقاضى 1000 قطعة ذهبيّة في المقابل، فيوافق أهل القرية و"العمدة" على شرطِه ... وسرعان ما يبدأ اللّحن تخرج الجرذان من جحورها أسراباً تلحق بالعازف الذي قادها إلى النهر ليغرقها جميعها.

 

حين يعود عازف المزمار مُطالباً بمكافأته؛ لا تفي "هاملن" بوعدها، فيعزف لأهل المدينة لحناً أخيراً حتى يلحق به نصف أطفال المدينة هذه المرّة، ويختفوا خلفَ جبلٍ كبيرٍ إلى الأبد؛ إلّا أنّ طفلاً واحداً منهم قد عاد ليروي الحكاية، فقد أصيبت قدمه ولم يستطع إكمال الطريق، وقال إنّ الأطفال في الجبل لديهم نعيمٌ من المروج والحدائق السحريّة.

 

 

التطبيق الأوليّ

جلست المربيّات في دائرةٍ ينتظرنَ أن تبدأ الورشة الرابعة لهنّ في الدراما، ولم يعلمنَ أنّها بدأتْ لحظة جلوسهنّ، فطلب الكردي منهنّ تضييق الدائرة، وحين حرّكنَ مقاعدهنّ؛ أصدرت المقاعدُ صوتاً مزعجاً، عاد الهدوء سريعاً ولكنّهنّ سرعان ما سُئلن: "ماذا لو أحدثَ طلبتُك كلّ هذه الضجّة؟"؛ حينها علمتْ المربيّات أنّ التجربة قد بدأت، فالاستثمار في موقفٍ صغيرٍ كتحريك المقاعد لنقاشِ موضوعٍ كبير مثل التعامل مع طاقةِ الأطفال في غرفة الصفّ، يُنبئنا بأنّ الدراما قد حضرت.

 

عُرضت لوحة زيتيّة اسمها "ألعاب الأطفال" للفنّان الفلمنكي بيتر بروغل الأكبر، رسمها في القرن السادس عشر، وفيها أطفالٌ عديدون يلعبون ألعاباً جماعيّة، وانطلاقاً منها طُلب من المربيّات أن يتخيّلن نوع المجتمع الذي تتحدّث عنه اللّوحة، واتفّقن على أنّه مجتمعٌ ريفيّ بسيط منسجم مترابط، وحتماً ليس من الزمن المعاصر.

 

ثم روى الكردي قصّة "عازف المزمار" على مسامعهنّ باختصار، وبدورهنّ قُمنَ بربطها بالبيئة التي تخيّلنها مسبقاً حين نظرنَ إلى اللّوحة؛ ثمّ جاءتْ مرحلة تحليل القصّة لاكتشاف مجالات التعلّم الكامنة فيها، أي ماذا يمكننا أن نعلّم أطفالنا من الدراما المبنيّة على "عازف المزمار"؟

 

 

سين جيم 

كتب نايجل توي وفرانسيس برنديفيل في كتابهما المشترك "الدراما والقصّة الشعبيّة لسنوات الطفولة المبكّرة"؛ الذي ترجمه برنامج البحث في "القطّان": "نحن نهدف ببساطة إلى الحصول على تفاعل مع أفكار القصّة أكثر من مناقشتها بصياغة أسئلة مجرّبة جداً من قبل المعلّمة، وأجوبة من قبل الأطفال".

 

فقد أكّد الكردي خلال النقاش "أنّنا لا نعمد إلى تعليم القيم بشكلها التقليديّ، كأنْ نسأل الطلبة: "هل تؤيّدون الصدق في الوعود؟"، بالطبع سيجيب الأطفال بنعم تلقائيّاً، ولكن دون أن يفكّروا مليّاً بالأمر؛ بينما تعرض القصص مسائل أخلاقيّة وتتيح للأطفال فرصة الحديث مع الشخصيّات التي تواجهها مباشرةً، كالعازف الذي انتقم من المدينة مثلاً، أو "العمدة" الذي لم يفِ بوعوده.

 

كلّ سؤالٍ تمّ طرحه كان يفتحُ سؤالاً آخر، ومن الأسئلة التي انسابتْ: "بعد اقتيادِ العازف الجرذان إلى النهر؛ كيف أصبحت مياه النهر؟"، و"صحيحٌ أنّ نصفَ الأطفال قد ذهبوا إلى الجبل واختفوا، لكن ماذا عن الأطفال الباقين؟"، و"كيف هي حياة الأطفال في الجبل؟ هل هم سعداء؟".

 

كما يأتي سؤال آخر عن سبب أخذ الأطفال إلى الجبل عوضاً عن إغراقهم في النهر كما حصل مع الجرذان: "لماذا لا يريد العازف قتلهم؟"؛ ليساعدنا التساؤل في قراءة شخصيّة العازف؛ إذاً نريد مقابلته!

 

كأيّ لقاءٍ مع أيّ شخص؛ نحتاجُ مكاناً وزماناً ومناسبة (حدثاً)، وهذا ما يُسمّى بالسياق، من الممكن أن نشاهده وهو يتناول العشاء مع ابنه وزوجته بعد أن أخذ الأطفال إلى الجبل ... أم أنّه لا يُنجب الأطفال، وهذا ما خلق لديه حنيناً إليهم فلم يؤذِ أطفال المدينة؟

 

ليس هناك إجابة واحدة، وكلّ شيء ممكن؛ فهذه إحدى الفجوات في القصّة التي نستطيع استثمارها كما أردنا، بشرطِ أن تقودنا إلى قيمة تعلّميّة حقيقيّة لاحقاً.

 

من السياقات الأخرى التي تمّ طرحها هو اجتماعٌ بين "الزمّار" و"العمدة" وأهل القرية قبل أن يُبرم اتّفاق إبعاد الجرذان؛ فأخذ الكردي دور "الزمّار" -بلغةِ جسده وإشاراته- وجلس أمام المربيّات اللاتي في دور أهل القرية؛ أمّا العمدة فكان مُتخيّلاً تماماً وممثّلاً بكرسيّ تعلوه كومة ورق.

 

الزمّار واثقاً من نفسه وبصوتٍ منخفض: "كنتُ أعرف أنّ هذا اليوم سيأتي، وسأقوم بمهمّتي على أكمل وجه".  ثم بدأ أهل القرية (المربيّات) بمفاوضته على قدر المبلغ، أو إنْ كان بإمكانه تقسيطه، أو تقاضي قطعة أرضٍ بدلاً من المال؛ لكنّ "الزمّار" ثابتٌ على مطلبه الأول: "1000 قطعة ذهبيّة دفعةً واحدة".

 

السؤال الحقيقيّ الآن هو كيف سيحصّل أهل القرية المبلغ؟ وبخاصة أنّ الجرذان تقضم الزرع في هذه الأثناء ولا وقت للمماطلة.

 

 

إيقاف الدراما

انضمّ مالك ريماوي، الباحث الرئيسيّ في "القطّان، إلى تحليل الحوار الذي دار للتوّ؛ قائلاً باستنكار إنّ أهل القرية كانوا يتسوّلون المساعدة، فهل نريد تعليم أطفالنا أن يفترضوا أنّ الجميع سيتعاطف معهم، بينما نرى نحن واقعياً أنّ الحياة جديّة وقاسية؟

 

لم ينتهِ الاستكشاف بعد؛ فطُلبَ من كلّ أربع مربيّات أن يشكّلنَ "صورةً ساكنة"، وهي كما وصفها الكردي: "الزادة والزوّادة" في التعامل مع الأطفال، ففيها تتخيّل المربيّات سياقاً معيّناً يتضمّن توتّراً ومفارقةً من نوعٍ ما، ويقفن ساكناتٍ كتمثال ثلاثيّ الأبعاد؛ وكأنّما توقّف الزمن عند لحظةٍ معيّنة انتقيْنها بأنفسهنّ، ليركّزنَ فيها وحدها؛ وذلك مستمدّ من المسرح، حيثُ تُخرجُ المربيّة الصورة الساكنة وتخلق شكلها، ثمّ تلعب دوراً فيها -كطفلٍ مرض جرّاء مياه النهر الملوّثة بالجرذان، أو أمّه القلقة التي تمسك بيده- وثمّ علاوةً على كونها مخرجةً وممثّلة؛ تكتب نصّاً قصيراً لتقوله حين يقتربُ أحدٌ من صورتها الساكنة ليعرف الحكاية.

 

كما حضّرت المربيّة هبة القاق دوراً اختارته؛ وهو مدير المدرسة في هاملن، الواقف أمام الأطفال الذين تبقّوا في المدينة، الذي جعلته القاق يناقش الطلبة (المربّيات) حول ما بإمكانهم فعلُه لحلّ مشكلة أصدقائهم المختفين في الجبل؛ فتقترح إحدى المربّيات: "سنحتجّ للعمدة".

 

نستدعي العمدة إلى المشهد الذي يليه إذاً، ويلعب دوره هذه المرّة الريماوي: "صحيت على أمل إنّه الي صار كابوس".

 

فتحاول المربيّات -في دور الأطفال- أن تحمّل العمدة المسؤوليّة الكاملة عمّا حدث؛ كونه لم يفِ بوعده للزمّار، ولكنّه يذكّرهنّ بأنّهنّ كنّا موجوداتٍ حين أُبرم الاتفاق؛ فهي مسؤوليّة جماعيّة ... وبعد نقاشٍ طويلٍ حول الانتقام من الزمّار، أو المحاولات غير المجدية لجمع المال؛ يقترح الريماوي -بدور العمدة- أنّ الأطفال انتهوا؛ وكما استخدم الزمار سحره، على المدينة وأطفالها أن يردّوا بسحرهم.

 

وفي ذلك المشهد؛ تُبذر بذور مهمّة تستطيع المربيّات تكليف الأطفال بها، السحر هنا يعني تخليد ذكراهم؛ ربّما بالموسيقى كالزّمّار، أو بكتابة رسائل لهم، أو بالتخطيط لمعرضٍ يحمل صورهم؛ فهي إعادة "مجازيّة" للأطفال، ومثلما سُرقوا بالموسيقى؛ سيعودون بالفنّ، ومنها ينطلق الأطفال للانخراط بتجربة عمليّة يترجمون فيها أحاسيسهم، وتبني فكرهم وخيالهم ومسؤوليّتهم اتجاه من حولهم، لتتحوّل إلى قوةٍ وممارسةٍ واقعيّة لاحقاً.

 

 

لماذا القصّة؟ ولماذا الدراما؟

على الرّغم من أنّ القصص ليست المدخل الوحيد للدراما؛ إذ بإمكاننا بناء الدراما على غرض أو مقطع مُصوّر مثلاً؛ فإنّ القصّة مادّة غنيّة، فهي تبدأ من المنتصف وتنتهي عنده، فمثلاً هناك فترة زمنيّة طويلة قبل أن يغزوَ الجرذان مدينة "هاملن"، حيث بدأنا الحكاية، وهناك زمنٌ بعد اختفاء الأطفال، والفترتان لم تروِ القصّة مجريات أحداثهما، فإنّ هذه الفجوات هي مساحة خصبة للدراما ولنتخيّل ما الذي حدث خلالها بأنفسنا؛ إضافة إلى ما تتيحه الجغرافيا من إمكانيّات، أيْ أنّ القصّة لا تستطيع وصفَ الأحداث في مكانيْن في آنٍ واحد، ولا تستطيع مثلاً إخبارنا بما كان يحدث في المدينة لحظة وصول الأطفال إلى الجبل، فهي منشغلة في وصف مكان الاختفاء، بينما تتيح لنا الدراما أن نعتبر الزمان والمكان "لعبتنا".

 

ومع كلّ ذلك؛ قال الكردي إنّنا يجب أن نكون حذرين عند استخدام القصص في الدراما من "اللّهاث وراء الأحداث"، فليس الهدف هو الوصول إلى نهاية، ولا بناء مشهدٍ مسرحيّ تُغلق الستارة بعده، إنّما نهدف لأن يمنحنا المشهد إمكانيّة السؤال والبحث والإبحار في الخيال لإنتاج المعنى الخاصّ بنا؛ مضيفاً أنّ المعلّم يجب أن يتخلّص من فكرة "المعلّم الذي يعرف كلّ الأجوبة، وألّا يفرض حكمته الخاصّة على الطلبة، ويصف محاولاتهم بخياريْن لا ثالث لهما: "إمّا صحيح وإما خاطئ"، كما أكّد مراراً على أهميّة الصمت، فهو فرصةٌ للتأمّل قبل التفوّه بأول فكرةٍ نمطيّة ترد في الأذهان؛ فجوهر الدراما هو خلق أطفالٍ تتقن السؤال، وليس الإجابة.

 

وقدّمت الباحثة في برنامج البحث والتطوير التربويّ فيفيان طنّوس في النهاية مُلخّصاً نظريّاً لكلّ ما وردَ في الورشة، تبعاً للتمهيد الذي قدّمته في بداية اليوم الأوّل؛ فهي -مع زملائها في برنامج التكوّن المهنيّ للطفولة المبكّرة- تتابعُ تطوّر المربيّات في مجال الدراما عن كثب عبر ورش العمل والتواصل الدائم معهنّ، حيث من المقرّر أن تعمل المربيّات على مخطّط للدراما خلال فترة الصيف، ليطبّقنه في رياض الأطفال التي يعملن فيها عند بداية العام الدراسيّ الجديد في أيلول المقبل.